أستعذر إليك رسول الله، سأقتبس من كلامك الطيب عبارة أناقش من خلالها موضوعا يقض مضاجع الناس كل الناس في بلدة منسية مقهورة حد الثمالة، ولم يستحوا عجبا، وموهوا على زوارها خداعا إذ كتبوا على مَدْخَلَيْهَا: “مدينة تنغير ترحب بكم…” مدينة !! أي سخافة هذه ؟ أي كذب على الذقون هذا ؟ أي افتراء على “علم الاجتماع” بشقيه الحضري والقروي معا هذا؟؟
نعم، أستعذر إليك رسول الله، إذ اقتبس من أنوار خطابك ما أرجو من خلاله تبديد اللحظات العسيرة التي نعيشها، وقد اختلط الحق بالباطل، ووقعنا في فتن كقطع الليل المظلم… ولكن عفوا… لمَ أستعذر إليك صلوات ربي وسلامه عليك، وأنا أسترشد بتوجيهاتك وأنوارك لقراءة واقع مفتون حد الجنون؟؟… وهل وَجهْتَ خطابك الشريف إلا من أجل الاسترشاد والاقتداء والاهتداء…
يقول صلى الله عليه وسلم: “إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، “إذا لم تستح فاصنع ما شئت.””، ومعنى ذلك أن المرحلة السابقة على الإسلام لم تكن ضلالا في ضلال كما قد يُتَوَهم، بل إن المجتمع الجاهلي كانت تحكمه قيم أخلاقية راقية، تحدث عن بعضها الشعر الذي عُد ديوان العرب بامتياز، وتحدثت عنها كتب التاريخ والتراجم والسير… ومن هذه الأخلاق الشديدة الصلة بموضوع الورقة: خلق الحياء، الذي قال فيه نبي الرحمة: “الحياء خير كله، أو قال: كله خير.”، والذي استحق أن يذكر في حديث شُعَب الإيمان الشهير: “الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان.”، ويقول صلى الله عليه وسلم: “استحيوا من الله حق الحياء.” قلنا: إنا لنستحيي من الله يا رسول الله! والحمد لله. قال: ليس ذلك. ولكن الحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلَى. ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى. فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء.” ولا غرابة في ذلك، ذلك أنه في غياب الحياء نتوقع كل شيء… والمثير للانتباه أن الموافقة تتم بين كلامه _وهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى_، وما توصلت إليه الحكمة البشرية المفصولة عن الوحي: “إذا لم تستح فاصنع ما شئت.”
أستحضر هذا الحديث الشريف، وأنا أتأمل وأحترق غيظا بهذه المشاريع الفاشلة التي تشوه وجه البلدة تشويها، وتجعل من تسميتها “مدينة” مجازفة ما بعدها مجازفة، وتطاولا وتعديا على التخصصات الأكاديمية من جهة وعلى اللغة بقواعدها وضوابطها ومعاييرها من جهة أخرى.
ما معنى أن يرخص لأصحاب المشاريع الصناعية والحرفية بأن يزاولوا حرفهم في أحياء سكنية المفروض أن تتوفر فيها شروط السكينة والهدوء؟ ما هي الحجج التي يتذرع بها هؤلاء وهو لا يجدون أدنى غضاضة في السماح للنجارين والحدادين والميكانيكيين وصانعي الزليج بأن يزاولوا مهنهم الشريفة والمزعجة على حساب راحة السكان وطمأنينتهم؟ ؟
لا يستدعي الأمر تفكيرا كثيرا، يكفي أن تعيش تجربة من هذه التجارب المرة، وأن تسعى للدفاع عن حقك المشروع في سكن مطمئن في حي سكني نظيف، لكي تتدفق الحجج الواهية الرخيصة، فتنتفخ أوداجهم وهو يتحدثون عن قيم التسامح والأخوة في الله، وعن مراعاة الظروف المعيشية القاهرة، وعن العرف الاجتماعي… غير أن الحقيقة المرة التي يجب الإفصاح عنها أن الأمر يتعلق بسببين اثنين:
_الوفاء بالوعود التي تُقَدم خلال الحملات الانتخابية المشبوهة والملغومة مهما تظاهر أصحابها بالنزاهة وبالطهر وبالشفافية.
_العلاقات العائلية والقبلية التي تضرب كل النصوص القانونية المكتوبة عُرض الحائط، علاقات قوية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن “تنغير” لم تخرج بعد من جلباب “القرية” الْمُؤَلفة من تشكيلة قبلية معقدة جدا تمنع حرية التفكير، كما تمنع حرية التعبير…
أوجه خطابي إلى أصحاب هذه المشاريع، فأقول لهم: استحيوا من الله حق الحياء فإن مشاريعكم هذه وإن بدت مشروعة قانونيا، فإنها غير مشروعة أخلاقيا وإنسانيا، وإن بدت مُكْسِبَةً ومربحة فإنها مُفْلِسَةٌ مُخَرِّبَةٌ، أقول لكم: اتقوا الله في أولادكم، لأنهم تطعمونهم مالا حراما، نعم مال حرام، لأسباب ثلاثة على الأقل:
_إن رأس المال الذي انطلقت منه حرام، لأنه عبارة عن قروض ربوية حرمها الله عز وجل تحريما بقوله تعالى : “وأحل الله البيع وحرم الربا” [البقرة/275]، وحذاري من الاغترار بنجاح مشاريعكم، فإن الله عز وجل إذا “أبغض عبدا رزقه من حرام، وإذا اشتد بغضه له بارك له في ذلك الحرام.”
_إن احتجاج السكان ورفضهم لإزعاجك وإذاياتك يجعلكم تقعون في حق الجار الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.”، وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ “(البَوَائِقُ ) : الغَوَائِلُ والشُّرُورُ، واعلم أن حق الجوار عظيم عند الله عز وجل، فقد ورد في الأثر أن الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقا. فأما الجار الذي له حق واحد، فالجار المشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان، فالجار المسلم لا رحم له، له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق، فجار مسلم ذو رحم، له حق الإسلام، وحق الجوار، وحق الرحم. وأدنى حق الجوار أن لا تؤذي جارك بقتار قدرك إلا أن تقدح له منها.
_إن إصراركم على الدفاع عن باطل أنتم أول من يعلم أنه باطل، يجعلكم تتورطون في شرك الرشوة، فلا تجدون أدنى غضاضة في أن تقدموا مبالغ مالية رشوة ل “أصحاب الحال” المرتشين الغافلين عن ربهم عز وجل مقابل التستر عن فظاعاتكم وظلمكم وحماقاتكم، ولكن اعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: “لعن الله الراشي والمرتشي والرائش”، واللعنة تعني الطرد من رحمة الله تعالى.
كما أوجه خطابي للمسؤولون الذين يعطون الرخص جزافا، أدعوهم لأن يستحوا من الله حق الحياء، ولأن يتأملوا هذه الملاحظات الثلاث:
_المفروض أن تكونوا أنتم أحرص الناس على تنظيم (المدينة) أو (القرية) لست أدري، وأن تقيموا الحدود الفاصلة اللازمة بين الأحياء السكنية والحي الصناعي.
_ما معنى أن تمنع المواطن الراغب في رخصة بناء (تجزئة إديس ن إغير نموذجا) بدعوى احترام القوانين المنظمة؟؟ وتسمح لأصحاب هذه المشاريع بتنغيص عيش السكان وإزعاجهم وتهديد جدران بيوتهم؟؟
_أخطر ما في الـأمر أنكم عوض العمل على إشاعة خلق احترام القانون، تشجعون على الفوضى التي _لا قدر الله_ قد تتحول ذات يوم من مشادات كلامية إلى مواجهات تسيل معه الدماء وقد تزهق فيها الأرواح، من يدري؟
المصدر : https://tinghir.info/?p=29674