كلمة إبستيمولوجيا التي تقابلها بالفرنسية épistémologie و بالإنجليزية epistemology مشتقة من الكلمتين اليونانيتين « episteme » و تعني “معرفة علمية” و « logos » و تعني “علم”، و بهذا يمكن تعريف كلمة إبيستيمولوجيا بأنها علم دراسة المعرفة، و هو فرع من فروع الفلسفة يهتم بدراسة المعرفة و كيفية حصولها و الصلة بينها و بين الحقائق الموجودة من حولها.
إن العلوم بصفة عامة، و منها الفيزياء، مرت بمراحل تاريخية تَمَّ خلالها صياغة نظريات وإجراء تجارب تهدف إلى تفسير ظواهر طبيعية أو انتاج معارف جديدة، بعض تلك النظريات أصابت، أو على الأقل لم يتم تفنيدها لحد الساعة، و بعضها الآخر تم تفنيده أو تعديله. و دراسة تلك النظريات بمعزل عن سياقها التاريخي و الإبستيمولوجي من شأنه أن يُفقدها عناصر مهمة فيصعب فهمها و تأويلها، و باعتبار تلك المعارف و النظريات ليست مسلمات أو بديهيات، وجب إخضاع مبادئها و مناهجها و نتائجها لدراسة نقدية.
و حول هذا الموضوع اختلف الإبستيمولوجيون و الفلاسفة بين من يمجّد العقل و يعتبره المصدر الموضوعي الوحيد للمعرفة العلمية، و أن استعمال مبادئ العقل و المنطق هو السبيل للوصول إلى الحقيقة (المنهج العقلاني)، و آخرين يعتبرون أن الحقيقة لا يمكن أن تكون موضوعية إلا إذا تمّ استنباطها من الواقع المادي المحسوس، و أن المختبر وحده كفيل بإنتاج تفسيرات للظواهر باعتماد المنهج التجريبي القائم على الملاحظة و صياغة الفرضيات ثم التجريب المخبري للتأكد من الفرضيات و صياغة قانون عام به يتمّ تفسير جميع الظواهر المماثلة. و بين هذا التوجه و ذاك، يذهب آخرون إلى أن المنهج التجريبي و المنهج العقلاني يُكَمّل كل منهما الآخر.
في هذا البحث سأحاول أن أدرج أمثلة لتجارب فكرية expériences de pensée، عرفها تاريخ علوم الفيزياء، حيث تم خلالها التحكيم إلى آليتي العقل و المنطق لتفسير الظواهر و صياغة النظريات.
نظرية أريسطو حول سقوط الأجسام و التجربة الفكرية لكاليلي:
“أريسطو” (384-322 قبل الميلاد)هو فيلسوف و عالم موسوعي يوناني، اعتبر من أعظم مفكري العصور القديمة، حيث تناول مواضيع الفلسفة و العلوم، “الإبستيمولوجيا” و “المنطق” و “الفيزياء” و غيرها.
و قد تناول أريسطو مسألة سقوط الأجسام، وصاغ نظريته كمايلي “الأجسام الثقيلة تسقط أسرع من الأجسام الخفيفة”، أي أنه عند إطلاق جسم ثقيل و جسم خفيف من على نفس الإرتفاع عن سطح الأرض، فإن الجسم الثقيل سيسقط على الأرض قبل الجسم الخفيف، فكُرة حديدية تزن كيلوغرامات ستسقط عل الأرض قبل أن تسقط ورقة إذا قمنا بإطلاقهما من على نفس الارتفاع عن سطح الأرض في نفس اللحظة.
لكن العالم الفيزيائي الإيطالي كاليلي كاليليو) 1564-( 1642 اعتبر نظرية أريسطو خطأ إبستيمولوجيا، ارتكبه صاحب المنهج الإستقرائي التعميمي، و أثبت كاليلي ذلك باعتماد “التجربة الفكرية” التالية:
أولا، افترض كاليلي أن نظرية أريسطو صحيحة،
و تخيّل أننا قمنا بإطلاق جسم ثقيل A و جسم خفيف B من على نفس الإرتفاع عن سطح الأرض، و عند لحظة ما، قمنا بقياس سرعتي الجسمين، و حسب نظرية أريسطو فإن سرعة الجسم الثقيل VA ستكون أكبر من سرعة الجسم الخفيف VB أي VA > VB. ثم تخيّل أننا قمنا بإطلاق المجموعة المكونة من الجسمين A و B متلاصقين، منطقيا الجسم الخفيف سيقوم بإبطاء الجسم الثقيل، فتكون سرعة المجموعة VAB أصغر من سرعة الجسم الثقيل وحيدا VA أي < VA VAB ، مع العلم أن وزن المجموعة أكبر من وزن الجسم الثقيل وحده، و هذا يتناقض مع النظرية التي انطلقنا منها !! وحسب مبادئ المنطق، فإن كل عبارة صحيحة لا يمكن أن تؤدي إلى نتيجتين متناقضتين. و بالتالي فنظرية أريسطو خاطئة، والصواب حسب كاليلي أن جميع الأجسام تسقط بنفس السرعة كيفما كانت كتلتها، شريطة أن تخضع لنفس الظروف التجريبية. فما يجعلنا نعتقد كما اعتقد أريسطو أن الأجسام الثقيلة تسقط أسرع من الأجسام الخفيفة هو “عائق الحدس أو التجربة الأولى”، فلو قمنا بالتجربة العلمية في مكان فارغ ليس به هواء لتوصلنا إلى الحقيقة الموضوعية القائلة “بأن جميع الأجسام تسقط بنفس السرعة كيفما كانت كتلتها”، و هذه النتيجة تم التحقق منها فيما بعد بالتجارب المختبرية.
تجربة قطة شرودنغر chat de Schrödinger
سنة 1935، قام عالم الفيزياء الكمية la physique quantique ، النمساوي إروين شرودنغر Erwin Schrödinger بتخيل تجربة فكرية محضة، غير قابلة للإجراء الفعلي، وذلك بهدف أن يوضح أن قوانين و مبادئ الفيزياء الميكروسكوبية لا يمكن تفسيرها أو تطبيقها باستعمال لغة العالم الكلاسيكي المادي المحسوس.
في هذه التجربة، تخيل شرودنغر قطة داخل علبة سوداء معتمة ( لا يمكننا مشاهدة ما يجري بداخلها)، و داخل العلبة توجد كذلك قنينة زجاجية تحتوي على مادة غازية سامة قاتلة، و القنينة قابلة للكسر من طرف مطرقة معلّقة فوقها و متصلة بنظام يتم تفعيله بإشعاعات مادة إشعاعية النشاط. و حسب قوانين الفيزياء الكمية، احتمال أن تشع المادة متساوٍ مع احتمال عدمه، و بالتالي يجوز أن نقول قبل فتح العلبة أن “القطة حيّة و ميتة في نفس الوقت !! ” و هو ما يتنافى مع قوانين العالم الكلاسيكي التي تربّت عليها عقولنا.
نظرية النسبية الخاصة و مفارقة التوأم
سنة 1905، نشر “ألبرت إنشتاين” نظرية النسبية الخاصة و التي تنصّ نتائجها على أن الزمن و المكان نسبيان و يتعلّقان بسرعة و حركة المراقب، حيث تتقلص أبعاد المكان و يتباطأ (يتمدد) الزمن كلما كانت سرعة المراقب أكبر، و يكون هذا التغير في الأبعاد واضحا كلما اقتربنا من سرعة الضوء ( أقصى سرعة في الكون حسب ذات النظرية) و التي تساوي تقريبا 300000 كلم في الثانية.
و هو ما قاد انشتاين إلى إثباته لوجود تكافؤ بين مفهومي التسارع و الجاذبية. و باعتماد هذه النتيجة و نتيجة النسبية الخاصة ( القائلة أن الزمان و المكان يتغيران حسب حركة و تسارع المراقب) فإن الجاذبية إذن قادرة على تغيير الزمان و المكان كما تنص على ذلك نظرية النسبية العامة لإنشتاين و التي نشرها سنة 1915.
المصدر : https://tinghir.info/?p=29439