يصعب تصنيف الواحة من حيث شكلها: هل هي قرية؟، هل هي بادية؟ وهل هي مدينة من نوع آخر؟ فيها يختلط الحابل بالنابل، القروي بالحضري والقانوني بالعرفي والشرعي، تتعدد الاثنيات، تمتزج وتتباين من الخارج تبدو منسجمة لكن من الداخل تختلف وتتباين في طرائق الكلام وأنماط العيش والسكن وطقوسها في الأفراح والأقراح من الصعب المجازفة لإعطاء تعريف أو وصف مجمل لمجال ذي قابلية لاستيعاب كل المتناقضات وصهرها مع الاحتفاظ بخاصية كل صنف، حيث مجال الندرة والكفاف الذي قد يسبب الصراعات لكن يتم تدبيره وتقنينه عبر سلطة الجماعة، فساكنة الواحة كما يعرفها الأستاذالقسطاني في قوله بأنها “الكتبان، ترسبات بشرية، يذهب بعضها ويأتي البعض الآخر، لكن تبقى الكتبان هي هي هذا من زاوية الديمومة والاستمرار، إذ قلما تمتزج الاثنيات عبر المصاهرة حيث تشكلت بشكل شبه طبقات مغلقة إلى حد بعيد”[1].
فهذه الكتبان وهذه الترسبات البشرية المتوالية لأحقاب زمنية طويلة، توافدت فيه أجناس وثقافات متنوعة على الواحة. فقد استطاعوا تكييف المجال مع متطلباتهم التي فرضها شظف العيش، فالمستقرين كانوا بدوا قبل أن يكونوا مستقرين، وقد يحدث العكس عبر الغزو أو الفرار من المجاعات والحروب، لكن حسب الافتراض الذي ذهب إليه الدكتور القسطاني “بأن قصور الواحات سكنوها السود من الفلاحين والمزارعين الذين قدموا من الأنهار الأفريقية بحثا عن الماء والأرض الخصبة خصوصا في مراحل الجفاف والأوبئة” فاستوطنوا الواحات كإثنيات اهتموا بالغرس والزراعة.
– في الإثنياتالواحية:
استمرارا في الطرح الذي يؤكد اسبقية السود في احتلال المجال الواحي وترويضه عبر الغرس والفلح، بحيث أنشأوا الواحات أسفل منابع الماء، فهاته الإثنية التي يسمونها باللهجة المحلية (الحراطين) أو (إقبلين) فمن تسميتهم هذه يمكن استنتاج أنهم حراثين نسبة على الحرث وليس إلى الحرية كما يفسر البعض، لأنهم ليسوا عبيدا حتى إذا ما كانوا ذلك ففي مراحل لاحقة بعد أن غزاهم البدو وأصبحوا عناصر هجينة أو ربما متفرقة بعد أن اغتصبت أراضيها التي كانت مصدر عيشها أصبحوا بعد أن كانوا مالكين مملوكين، أما التسمية الثانية (إقبلين) ربما لأنهم قدموا من القبلة حسب التصور الواحي للاتجاهات الجغرافية الأخرى بحيث قد تسمي الشرق “القبلة”.
أما بخصوص الإثنيات الأخرى فقد يعزى تواجدها في الواحة إلى الغزو حيث البعض كانوا بدوا رحل يعيشون على الانتجاع والترحال (كبعض أفخاد (آيت مرغاد) (آيت عطا) (آيتاحديدو) فأغرتهم حياة الاستقرار التي تعتبر الغاية القصوى للإنسان البدوي، فغزوا المستقرين بعد أن اشتدت عصبيتهم ونصرتهم كما فعلت بعض قبائل العرب كما يروي ذلك ابن خلدون في كتابه “المقدمة”.
أما الأقلية من اليهود وشتات بعض الإثنيات الأخرى فربما كانوا طالبين للحماية والرحمة من اضطهاد أجنبي بعد أن انكسرت شوكتهم وتفرقوا في الأمصار، وبالتالي تم إدماجهم في القبيلة بعد مرورهم بطقس (تغرسي) حيث نقول باللهجة المحلية (غرس خف آيت مرغاد، او غرسن خف آيتاحديدو…).
أما (إكرامن والشرفة) الحاملين للصلاح والبركة في المخيال الواحي، الحاملين للحرمة والشفاعة والقادرين على تهدئة الفتن والوساطة للصلح بين الإثنيات المتناحرة، في حياتهم وحتى بعد موتهم بحيث يصبح قبر الوالي الصالح مكانا مقدسا لا يمكن أن تدنس حرمته، ومقصد لتجديد العهود وطلب البركة ورفع الأذى كما هو حال “ضريح مولاي عبد العزيز” بأسرير (وسيد الهواري) بالزاوية، وسدي يحيى رغم اندثاره وإهماله مؤخرا، فكما تقول بعض المصادر فإن أولئك الشرفاء أو إكرامن استقروا بطلب من الناس المستقرين، لما كانت لهم من ادوار في السلم والحرب وقدرتهم على توحيد الإثنيات في مواجهة العدو الأجنبي الدخيل، وباللهجة المحلية (كان آليم نكر إقليلن) فشرفاء ومرابطين اليوم ما هم إلا سلالات منحدرة من أولياء السلف والبركة شيء ينتقل بالدم والنسب.
ففي إطار تشكيل النعرة والعصبية بلغة ابن خلدون من عناصر غازية وأخرى مغزوة يقول “إذا اصطنع أهل العصبية قوما من غير نسبهم أو استرقوا العبدان والموالي والتحموا به، ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبية ولبسوا جلدتها كأنها عصبيتهم وحصل لهم الانتظام”[2].
– في مورفولوجيةالإثنية:
يجب التأكيد على محورية “الإخس” كتنظيم اجتماعي سلالي بالنسبة للواحات المغربية ولربما المجتمع المغربي ككل، وهو اكبر من العائلة وأصغر من الفخذة والقبيلة، ويفسر الأمر بتفكيك العصبية عبر الاستقرار من جهة ومن جهة ثانية عدم القضاء النهائي على القرابة الدموية وامتدادها عبر الغزوات.
أما اللفوف التي تحدث عنها روبرت مونطاني فهي متواجدة في الواحة[3] لفوف كبرى مثل “ايت يافلمان”.
إلا أن اللف انتماء إلى المجال وليس إلى العرف والقبيلة، كما أن البركة لا يحتكرها المرابط، فإن الأخذ بالثأر والحرب لم يكن من اختصاص القبائل فقط بل أمر مارسه الشرفاء والمرابطين وحتى الحراطين.
– في التنظيم العرفي (أزرف)
يبدو مفهوم العرف مفهوما ذو زخم رمزي قوي بمعناه الثقافي فهو “اتفاق ومواضعة وميثاق” فقد عرفه الدكتور القسطاني بأنه ذلك العمق الذي ينطلق من مفهوم أنثربولوجي حدر هو الإنسية نفسها، وهي مكانة دقيقة وحرجة تتراوح بين الطهرانية والدنس”[4] فويليام سمنر يرى بأن العرف عادة اجتماعية لكن بسلطة إلزامية كبيرة، فهو يعكس نظرة المجتمع للخطأ والصواب، على حد سواء وتتضمن الأمثلة على ذلك رد فعل الناس على القتل مثلا فهو فعل يحدث الغضب والصدمة، ويعتقد كثير من الناس أن رفاهيتهم تعتمد على مراعاة هذه الأعراف واتباعا لهذا فإن كل المجتمعات تسن قوانين تعكس الأعراف السائدة أو تهدف إلى ترسيخ أعراف جديدة فالعرف إذا نمط من أنماط الفكر الشعبي، وأشار سمنر إلى أن العرف قد يختلف من إثنية على أخرى من مجتمع لآخر وبوجه عام فإن كل جماعة تعتقد أن عرفها هو الأكثر قيمة وهو الأمثل وعلى هذا الاعتقاد أطلق عليه سمنر بالاستعلاء العرفي[5].
– في التراتب الاجتماعي
يبدو بشكل غير قابل للشك تراتبية مجتمع الواحة وهي تراتبية طبقية تكاد تكون مغلقة، فعلى رأس قمة الهرم الاجتماعي غالبا ما يوجد الشرفاء وإكرامنرمزيا، وهم محتكرون للمعرفة الفقهية وفي بعض الأحيان المشورة سياسيا، بعد ذلك يأتي البدو والرحل من آيت مرغاد وغيرهم الذين استقروا ثم الحراطين.
وإذا كان هناك احتكار للدين من طرف الفئة الأولى فإن الثانية محتكرة للدور العسكري والغزو، أما الثالثة ففلاحون مالكون للأراضي، أما الرابعة فمحتكرون للمعرفة الفلاحية ويأتي اليهود بعد ذلك كمحتكرين للتجارة والصناعة والحرف[6].
فالتراتب والتحقير والتفاضل داخل القصر يبدو معلنا عن نفسه بين هؤلاء الذين فرضت عليهم العيش الضرورة المشتركة فمثلا زقاق الخماسين (الحراطين) يختلف عن زقاق المالكين فالأول يبدو في تمثلات الآخرين زقاقا متسخا بروث البقر ورائحته كريهة، وبالتالي هو مكان مدنس لا يليق ولوجه أو المرور منه وأنت في طريقك إلى المسجد أو باب القصر ونفس الشيء هذا الوصم المتبادل لا يستثنى أحد متبادل إلا أنه يكون بشكل معلن من طرف البعض وبشكل خفي في البعض الآخر، فآيت مرغاد في تمثل الحراطين ليسوا إلا رحل أصحاب الخيام وحياة الفيافي ولا يفقهون في حياة الاستقرار شيئا.
أما آيت باعلي أوحماد لن يتملصوا مهما فعلوا من دمهم اليهودي فهم أحفاد اليهود ويجب التعامل معهم بحذر هكذا يوصي الأجداد والآباء أبناءهم لأن هؤلاء اليهود يتقنون المكر والغش في التجارة، فالبعض يوصمهم (بآيت باعلي أغيول) بدل آيت باعلي واحماد.
أما إكرامن والشرفاء رغم تاريخهم الحيادي في المنطقة إلا انه بدأت تتصدع مكانتهم الرمزية والروحية، لم يعد يكن لهم الولاء كما في السابق بحيث سيحضون بالهبات والعطاءات.
فجيل اليوم لم يعد يهابهم بدرجة آباءه وأجداده، ولم يعد يخاف من اللعنة التي قد تلحقه، وأحيانا يناديهم “بتارفا” وهذه الكلمة الأمازيغية تعني، فضلات البقر. ومن هذا الوصف تبدو مدى قداحة هذه التسمية الحظيظية أما إقبلين أو إحراطن فمن الجلي تمييزهم وربما تحقيرهم بوصمهم بمجموعة من الأوصاف (كإغنتار–إسوقين–إيزيزاون–ليبزار–إخماسن…) فهذه الأوصاف إذ دلت على شيء فإنما تدل على تعامل تحقيري وتمييزي وبالتالي خلق تراتبية في الواحة من الأعلى إلى الأدنى من المالك إلى المملوك رمزيا، من الأبيض إلى الأسود، من مالك الزاوية والضريح إلى مالك الأرض…
[1]- الواحات المغربية قبل الاستعمار “الدكتور القسطاني”.
[2]- المقدمة ابن خلدون، ص 127.
[3]- David Hart, institution des Ait Morghad et ait Hadidou, p 61.
[4]- الواحات المغربية قبل الاستعمار ص 244، بن محمد القسطاني.
[5]- فوزية ذياب، القيم والعادات الاجتماعية.
[6]- الواحات المغربية قبل الاستعمار، ص 244.
قضايل خديجة
المصدر : https://tinghir.info/?p=2896