عندما التحقْتُ بالسلك الثانوي، وجدتُ من بين الفتيات فتاة ذات ابتسامة عريضة وذات عينين جاحظتين…أثارت إعجابي، وكنت دائما أبحث عن الوسيلة المناسبة التي تقربني منها، قمت ببعض المحاولات لكنها باءت بالفشلِ.
وذات يوم، عندما خرجنا من الثانوية، وبينما أنا سائر في طريقي نحو البيت إذ رأيت بعض التلاميذ يتحرشون بها، لم يعجبني الأمر ولم أتحكم في أعصابي، وضعتُ حقيبتي جانب الحائط، وخلعتُ قميصي، فرميته على الأرض، وظهرتْ عَضَلاتي المفتولة، وذهبت مسرعا نحوهم. وَكَزْتُ الأول فسقط على الأرض، ثم جاء الثاني ليدافع عنه فأخذته ورفعته إلى السماء ثم رميت به فوق الأشواك، وعندما أقبل الثالث رفعت رجلي اليمنى بقوة وأصبت بها أنفه فسقط هو الآخر على الأرض، وكأنني في فيلم درامي. أما التلاميذ فكانوا يتابعون تلك المقابلة عن قرب ويتحمسون لها. وأما مريم فتجمدت في مكانها كعمود كهرباء، بعدما لم تُسْمِن صرخاتها ولم تُغْنِي من جوع. وكانت المناسبة لأُنَبه جميع التلاميذ أن كل من سولت له نفسُهُ التحرشَ بها فسيكون عقابه مثل هؤلاء أو أشد.
استغربتْ مريم بهذه الشجاعة والقوة التي أمتاز بها. وأنا في غاية السعادة لأنني كنت على يقين بأن هذه هي الطريقة الصحيحة والأنسب للتقرب منها وأدخل قلبها من أوسع أبوابه، ومن خلال هذا العرض القتالي كنت قد اصطدتُ عصفورين بحجرة واحدة؛ أولا: تقربتُ من مريم. وثانيا: فرضت شخصيتي في الثانوية. ومن ثمة لم يستطع أحد بَعْدُ التطاول علي أو احتقاري، لكن ما كان يهمني أكثر؛ هو أنني دخلت قلب مريم وكفى.
فمنذ ذلك الوقت وهي تفتخر بأنها صديقة “فاندام”. وكانت كلما دخلنا الحصة تراسلني بوريقات صغيرة وأنا كذلك أفعل الشيءَ نفسَهُ، حتى تطورت العلاقة بيننا، وعندما نخرج من الثانوية كنا نذهب معا إلى الحقول المجاورة للثانوية، وهناك نغني مع بعضنا وأقطف لها الورود وأتسلق النخيل لأجني لها أطيب وأحلى الثمور.
وذات يوم، كنا جالسين جنب الوادي، تحت الأشجار التي تنبت في هوامشه، نُعِدﱡ بعض التمارين المنزلية التي طلب منا الأستاذ إعدادها، بينما نحن نُدَون الأجوبة إذْ قالت لي: لقد تعبت يا محمد، ما رأيك في أن نضع الكتب والدفاتر جانبا وكل واحد منا يُحَدث الآخر عن طفولته وكيف كانت حياته الدراسية في السنوات التي خَلَتْ؟ قَبِلْتُ الفكرة بصدر رحب، وقلت لها: لكن أنا من سيبدأ. وقَبِلَتْ.
بدأت أحدثها عن حياتي الشخصية وعن عائلتي وسنوات الدراسة التي مَضَتْ. وعندما جاء دورها لتحكي، وَضَعْتُ رأسي على ركبتها اليمنى ومددتُ رجلاي على العشب ثم بدأَتْ تحدثني عن طفولتها وحياتها وكيف مَلكتُ قلبها…وهي تتلاعب بشعري الطويل، اللامع، الخالي من القشرة، كأنها تحكي لي حكاية عجيبة من حكايات الجدات، حتى دَخَلْتُ في نوم عميق. أدارتْ رأسي يمينا وشمالا وهي توقظني وتقول: محمد! محمد! انهض لقد غربت الشمس هيا نغادر المكان.
استيقظتُ من نومي لكن لم أفتح عيناي وقلت في نفسي: سأقوم وأهرب كي تتبعني في ذلك الجو الجميل كأننا في فيلم رومانسي. نهضتُ بسرعة البرق خطوتُ خطوتين، فإذا بي أصطدم بجدار البيت، أحسستُ بضربة موجعة في فمي، وضعت يدي اليمنى عليه، ثم نظرت إليها، فوجدت الدم فيها حينها علمت أن الضربة كانت قوية. والدتي كانت قريبة من المشهد، وما قالت سوى هذه العبارة: “بسم الله عليك أَوْلِيدِي.. خِيرْ وسْلاَمْ”
المصدر : https://tinghir.info/?p=27483