الحديث عن المسلمين في الغرب حديث ذو شجون و هو بالضرورة حديث عن التحديات و العقبات، حديث عن قسوة الغربة و وحشة البعد عن الأهل و الوطن، هموم و أوجاع هي أغلب ما يطبع تفاصيل الحياة اليومية لهذه الشريحة العريضة من المجتمع الغربي .
لا يسعنا الإحاطة بمعاناة المسلمين في بلاد الغرب في مقال متواضع، لكن هي محاولة مني لإلقاء بعض الضوء على مسألة تربية الأطفال و سعي الآباء الحثيث إلى تحقيق توازن بين اندماج أطفالهم في النسيج الاجتماعي لوطنهم و بين الحفاظ على هويتهم الدينية و الثقافية -بمفهومهما البسيط إن صح التعبير- كمَعْلَميْن ثابتين يهتدي بهما الطفل، في عالم شديد الحركة و الهيجان، يجرف معه كل من لم يتحصن بهويته و ثقافته.
ففي فرنسا مثلا و التي تعرف تواجد ما يقارب الستة ملايين مسلم، يُعتبر تعليم الأطفال و تربيتهم مِن أكبر التحديات التي تُؤرق الآباء نظرا لندرة مؤسسات تربوية خاصة، معنية بذلك و معترفٍ بها من طرف الدولة، على غرار المدارس الكاثوليكية، هذا بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف متابعة الدراسة فيها، كما أن استمراريتها غير مضمونة في بلد علماني ينظر إلى هذا النوع من المؤسسات بعين الريبة. نظرا لتداعيات الحروب و الصراعات التي تشهدها اقطار من العالم الإسلامي، و اكتواء بعض الدول الغربية بنيرانها عبر عمليات ارهابية يقوم بها شباب يتم تجنيدهم من طرف حركات متطرفة. مما يجعل من الاسلام و المسلمين هدفا لسهام الساسة و الاعلام.
أمام هذا الوضع يلجأ الآباء الذين في غالب الأحيان لا يَجدون الوقت الكافي للاهتمام بتعليم أطفالهم أو يفتقرون إلى مستوى ثقافي يُساعدهم على ذلك، إلى الجمعيات الإسلامية التي تنشط في الأحياء أو من خلال المساجد، آملاً فيها لتأمين تأطير تربوي سليمٍ يحفظ شيئا مِن ثقافة أولادهم، و يحول دون ضياع هوياتهم.
إلا أن الإكراهات التي تواجه الآباء و القائمين على هذه الجمعيات لا تقف عند حدود ندرة الكفاءات أو المؤسسات، بل تتعداها إلى إشكالية المنهجية التي يتم سلوكها من أجل تأمين تربية فعالة للأطفال، منهجية لا تأخذ في الغالب بعين الاعتبار قِلة عدد الساعات المخصصة لهذا الغرض، و التي يتم هدرها هباءً في أمور ثانوية من قبيل الغوص في دروس النحو و الصرف للغة العربية و رغبة الآباء و استعجالهم في رؤية أبناءهم يتحدثون العربية، رغم استحالة هذا الأمر لأسباب ذاتية عند الأمازيغ مثلا أو لأسباب تتعلق بالواقع كون الفرنسية فرضت نفسها لأن البيئة بيئتها. مما يدفعهم للحكم على هذه الجمعيات بالعجز وعدم كفاءتها، رغم أن الواقع يشهد بأن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الآباء الذين لا يَبدلون أية جهود لمد يد العون لها، عبر معاينة دفاتر المتابعة لأطفالهم أو إعانتهم على الواجبات المنزلية على سبيل المثال. ثم مراجعة الدروس معهم طيلة ايام الأسبوع، كما يفعلون معهم فيما يخص المدرسة النظامية ، و قِس على هذا جميع البلدان الأوربية التي تتواجد فيها الجاليات المسلمة.
و ترجع الأسباب الكامنة وراء هذه الإشكالية بالأساس إلى الفهم الخاطئ للدين و ربطه في كل تفاصيله باللغة العربية و أن لا سبيل لأي تربية إسلامية سليمة بدونها، في حين أن حاجة المسلم من العربية في ظروف كهاته هو ما يسمح له بقراءة القرآن الكريم، أي الحد الأدنى الواجب على المسلم تعلُّمه حتى يتعبد به في صلاته. ما عدا هذا فأمور الدين كلها من تفسير و حديث و ما إلى ذلك، فالمطلوب هو فهمها، و لن يتأتى ذلك للإنسان بشكل كامل إلا عبر اللغة التي يُتقنها. و لابد من الإشارة هنا الى وجود حالات لشباب تمكنوا فعلا من خرق هذه القاعدة و هذا راجع بالأساس الى انتقالهم الى دول عربية (سوريا و مصر مثلا قبل الثورات) و الإقامة بها برهة من الزمن للتعمق في علوم اللغة و الدين، و هذا غير متاح للكل، كما انه ليس واجبا عل الكل أيضا.
و قد أثبتت التجارب التي لا تترك مجالا للعاطفة، أن الانهماك في تعليم معمق للغة العربية في الغرب هو مضيعة لوقت ما أحوج الطفل المسلم إليه لاستثماره في فهم دينه في أبهى صوره و دراسة تاريخ المسلمين دراسة نقدية، ثم الإلمام بالحضارة الإسلامية و كيف أفادت و استفادت عبر تفاعلها مع الحضارات و الثقافات المختلفة. مما قد يُساعده على تكوين شخصية مستقلة بعقلية نقدية بعيدا عن عقدة اللغة التي تعدَّرَ عليه تحصيلها رغم سنوات من التعلم، مما قد يُفقده الثقة في نفسه، مُعتقدا و بشكل خاطئ أن عجمِيته تمنعه من أن يكون مسلما حقيقيا، و بالتالي يُصبح لقمةً صائغةً في يد شبكات الفكر المتطرف وخطبائه الذين يتكلمون العربية بطلاقة غير متناهية تسحر عقول الشباب، و تستهويهم، فالعربية عندهم هي الإسلام والإسلام هو العربية.
لابد في الأخير أن أؤكد على أمر مهم حتى لا يتبادر الي دهن القارئ أني بصدد تسجيل موقف ما من اللغة العربية في حد ذاتها، بل سأقول نفس الشيء لو تعلق الأمر بلغة أخرى، كما أن القائمين على تدريس الأطفال في الديار الاوروبية و الذين يبذلون جهودا كبيرة و بشكل تطوعي في غالب الأحيان، لابد أن يعملوا قدر المستطاع بمبدأ التوفيق بين ما هو مطلوب و واجب تلقينه و ما هو ممكن و متاح لبلوغه، من ناحية الإمكانات المتوفرة أو فيما يخص المدة الزمنية المخصصة لذلك والتي لا تتعدى أحيان الساعتين من كل أسبوع، و أن يكون الهدف الرئيسي و الأولي هو الحد الأدنى الذي يُمَكن الطفل من قراءة القرآن بالاعتماد على نفسه، أي معرفة الحروف الابجدية نطقا و كتابةً، ثم قراءتها وتركيبها على شكل كلمات، عندما يتحقق هذا للتلميذ، نكون قد نسجنا خيطا رفيعا يربط بينه وبين كتاب الله الكريم الذي بفضل الله لا يحتاج الى فهم و لا تفسير حتى يشعر قارؤه بعظمة تأثيره في النفوس.
و الله أعلم.
odades@live.fr
المصدر : https://tinghir.info/?p=27233