شهد العالم حربين عالميتين خلال النصف الأول من القرن العشرين، خلفتا الملايين من القتلى والجرحى والمعطوبين، كما خلفتا دمارا فظيعا أتى على الأخضر واليابس، ومآسي مادية ومعنوية يصعب حصرها وتعجز الكلمات عن وصفها، ونظرا لكون معظم المعارك قد اندلعت ودارت في أوربا، فقد طال دولها وسكانها نصيب الأسد من هذه الكوارث الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصحية والنفسية والبيئية.
وما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى نهضت أوربا لتلملم الجراح، وقام المفكرون والمنظرون والساسة العقلاء لوضع الخطط والاستراتيجيات لإرساء السلم وإعادة البناء والإعمار، ومحو آثار الدمار، وبالفعل لم يكد يمضي الشطر الثاني من القرن، حتى أضحت القارة المدمرة “جنة” في مختلف الجوانب الحضارية والإدارية والتنظيمية والحقوقية والإقتصادية، وباتت حلما للبؤساء والمحرومين والمضطهدين من العرب والأفارقة والأسيويين، وأملا يُسترخص في سبيله قطع الفيافي والأدغال وركوب الأمواج والتضحية بالنفس والنفيس.
رغم أنف مخلفات الحربين، ورغم الاختلافات الجوهرية على مستوى اللغة والدين والأجناس بين أطراف النزاع، لم تجد القارة الشقراء أضمن أمنا ولا أفضل نفعا من سلوك خيار المصالحة والوحدة ورص الصفوف، وأضحت تكتلا اقتصاديا وعسكريا، وعملاقا وازنا في الساحة الدولية، تمثل حاليا في مُسمى الاتحاد الأوروبي.
الولايات المتحد الأمريكية أيضا، القوة الاقتصادية و العسكرية الأولى في العالم، مبنية على تجمع بشري مكون من بضع وخمسين ولاية، كل ولاية فيها بمثابة دولة أقوى من دول العالم “الثالث” وبالخصوص الدول العربية الضعيفة المتخلفة.
الصين كذلك، اليابان كذلك، والهند، كلها تكتلات بشرية ضخمة قوية، حجزت كل منها لنفسها مكانة محترمة في الميزان الاقتصادي والعسكري العالمي.
ومن الطبيعي أن يجتهد الأقوياء للبقاء في القمة، وأن يبذلوا الجهود لمنع الضعفاء من اللحاق والمنافسة، إبقاءُ الضعيف ذليلا حقيرا تابعا ضمانة لبقاء القوي سيدا عزيزا مطاعا، تلك من سنن الصراع والتدافع على مر الأحقاب والأزمان.
من أنجع وسائل التضعيف والاستخفاف، استخدام سلاح التقسيم ونهج سياسة “فرق تسد”، عن طريق إثارة الذهنيات الطائفية والمذهبية واللغوية، وإذكاء النعرات العرقية والقبلية والإقليمية.
نحن الآن نشهد ونرى بأم أعيننا كيف تحبك أمريكا وأوربا مؤامرات لتقسيم دول العرب والمسلمين، المجزأة أصلا، الصغيرة أصلا، الضعيفة أصلا، لتشكيل المزيد من الدويلات المجهرية؛ فبالأمس القريب تم تقسيم السودان إلى دولتين، وقبله تم تقطيع جزء من أندونيسيا لإعلان دولة مستقلة أخرى معترف بها، وها هو العراق مقسم عمليا، وإن لم يتم الإعلان بعد عن ذلك رسميا، ناهيك عما يُدبر بليل لمصر والمغرب، ويدبر نهاراً لسوريا وليبيا واليمن، وعن محاولات اقتطاع الأقاليم الجنوبية للمغرب لتأسيس دولة صحراوية جديدة، وقد سبق للاستعمار الفرنسي أن قام بإخراج دولة موريطانيا إلى الوجود في ظل تعتيم مريب وصمت مشبوه مقصود، الكلام عن وحدة أراضي موريطانيا والمغرب يثير الكثير من الحساسية في الوقت الذي أكتب فيه هذه الكلمات، لا بأس، فمن حقنا أن نسعى ونتكلم عن وحدتنا وسبل توحيدنا كما يعمل غيرنا لتقوية التكتلات والتحالفات، ومن حقنا أن ندرس ونتدبر كيف حصلت هذه الفرقة والشقاق بين الأشقاء في كيان أمتنا الإسلامية، لكي نخطط و ننظر في سبل استرجاع وحدتنا الضائعة، وإرجاع المياه إلى مجاريها الطبيعية.
إن ما يجمع مكونات أمتنا في الشرق وفي الغرب أوسع وأشمل وأعظم مما جمع شمل أوربا على سبيل المثال.
في الخليج نجد وحدة الدين واللغة والتاريخ ومعظم الأعراف والتقاليد، لكن الاستعمار صنع فيه دويلات قبلية قزمية، لم يرحل بعساكره حتى استتب الأمر للورثة الخدم، ونصب على رأس كل بئر بترول أمير.
عام 1981 بتاريخ النصارى، أسست إمارات البترودولار الخليجية ما يسمى “مجلس التعاون الخليجي”، ولم يكن الغرض الأساس من تأسيس ذلك المجلس بناء قوة اقتصادية لمنافسة أوربا والولايا ت المتحدة الأمريكية ولا اليابان، ولا لأجل تأسيس حلف عسكري لتحرير فلسطين، لا، أبدا، هيهات أن يحصل ذلك ما دام الأمراء مجرد عملاء للغرب والأمريكان وحراس مصالحهم ليس إلا؛ تم تأسيس المجلس بإيعاز من القوى الكبرى لغرض الوقوف في وجه الامتداد الإيراني ونفوذه وتأثيره عقب ثورة الإمام الخميني.
عندما تنصهر بلدان الخليج العربي في كيان سياسي واحد، سوف تكون لها كلمة مسموعة، فإذا توحد الخليج والعراق واليمن والشام، فبالتأكيد تكون المكانة أكثر شرفا واحترما وقوة وردعا، حينئذ لن يكون بوسع الاحتلال إلا الرحيل. رُبَّ قارئٍ يتعجب أو يسخر من “تُرّهات” هذا الكاتب ! أو يظنه يسبح في عالم الأحلام والخيال ! لكن في الحقيقة هذا هو المستقبل الحتمي الحقيقي للعرب، وإلا فباطن الأرض خير لهم من ظهرها، فقد باتوا مثالا للتخلف والجهل والبلادة والهوان والاتساخ، وأصبحوا حديث السخرية في العالمين.
وعلى الحدود التعيسة البئيسة التي خلفها الاستعمار الفرنسي بين المغرب والجزائر معاناة إنسانية قاسية، فهناك عائلات شطرها محسوب على الجمهورية الجزائرية وشطرها الآخر يحمل بطاقة المملكة المغربية، النظامان المغربي والجزائري يتلاسنان حين لآخر، ويختلقان أجواء مكهربة من العداوات على خلفيات تاريخية، أوصراع على النفوذ، أو خدمة وتنفيذا لأجندات خارجية، وما اصطناع قضية الصحراء إلا وجه من أبشع وجوه المؤامرات الخبيثة ضد الشعبين الشقيقين، ولذلك فدون جمع الشمل وصلة الأرحام خرط القتاد، ما معنى هذا؟ أي ظلم هذا الذي يفرق بين الأحباب والأقارب والأرحام؟ ومن الطرائف المضحكة المبكية، أن هؤلاء يصومون ويفطرون على الرؤية الرسمية للدولة الجزائرية، وأولئك على الرؤية الشرعية الخاصة بالدولة المغربية، بينما هم يتراءون على مرمى الحجر، هذا صائم وذاك مفطر ! هذا يصلي صلاة العيد وذاك ينتظر صلاة عيده غدا أو بعد غد ! أهذا هو الدين الذي تركنا عليه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أم هو دين الحكام؟ !
المغرب والجزائر في حقيقة الأمر شعب واحد وليس شعبين، شعب مسلم واحد بمكوناته الاثنية والقبلية واللغوية والعرقية، في المغرب والجزائر معا عرب وأمازيغ وصحراويون وجبايليون وريفيون.
ما يجمع المغرب والجزائر بالخصوص يكاد يكون موجودا أيضا في باقي دول ما يسمى “المغرب العربي” إضافة إلى مصر، تسمية “المغرب العربي” لا تروق للأخوة الأمازيغ، يرون فيها طمسا لهويتهم وحقهم ووزنهم الديمغرافي والتاريخي والحضاري، ولذلك فمن الحكمة دائما البحث عما يجمع، وتفادي ما يفرق، نقترح له سِمْيَة “الغرب الإسلامي” لكون الجميع مسلمين والحمد لله، عربا وأمارزيغ، عدا أقلية قليلة من بقية اليهود المغاربة الذين لم يهاجروا إلى بلاد الشام لأجل السطو على فلسطين التي لا تزال تنزف دما من عدوانية الصهاينة الغاصبين، وأقلية أخرى من الأقباط المسيحيين الذين يعيشون في مصر.
دعونا في المزيد من الأحلام، فنحلم ليس بوحدة العرب فحسب، بل بوحدة المسلمين العرب والعجم أيضا، من كرد وفرس وأتراك وغيرهم، في اتحاد فيدرالي، وتحالف جيوسياسي وعسكري يجمعه الولاء لعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، يحسب القوم ذلك بعيدا وهو عند الله قريب.
عندما نفهم، عندما نريد، عندما نقوم، عندما نعمل، عندما يتولى خيارُنا أمورَنا، عندما تصدق النوايا، عندما تتغلب المصالحُ الجماعية الواسعة للأمة الإسلامية على الأنانيات السياسية والإثنية والطائفية والفردية الضيقة، عندها فقط يمكن تأسيس اتحاد للغرب الإسلامي واتحاد للشرق الإسلامي، خطوة في الاتجاه الصحيح نحو وحد المسلمين في العالم، وما ذلك على الله بعزيز، قال الله جل جلاله في الآية30 من سورة الكهف:” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ” صدق الله العظيم، ونقرأ في البشارة النبوية بعودة الخلافة على منهاج النبوة في آخر الحديث الذي رواه أحمد من حديث حذيفة رضي الله عنه: “ثم تكون خلافة على منهاج النبوة” صدقت يا سيدي يا رسول الله، بعد الفرقة يأتي الانجماع إن شاء الله تعالى، إلا أن حكمته سبحانه اقتضت أن ينزل النصر بعد الإعداد واتخاذ الأسباب.
تنغير ظهر يوم الخميس 23 مارس 2017م.
المصدر : https://tinghir.info/?p=27072