حَرّك قهوته السَّاخنة التي يَستبد زبدُها البُنيّ حَدّ الأفق بملعقته الخاصّة، تلك التي يَحتفظ ُبها دوْمَا في جيب مِعطفِه تيمُّنا بذكرى حبّه الأول. قهْوةُ الصّباح لها طعْمٌ خاص هذه الأيام؛ فأبواب الربيع تتفتح تبَاعاً، لهذا افترَّ وجهه عن ابتسَامة وديعة، ثم أخذه وابلُ التفكير إلى لقائِه في المُديرية أمْس صَديقه الأستاذ “حسين” الإطار التربوي الذي أعدمُوه برصَاصة الإعفاء فجأة رفقة ابن خَاله “مُصطفى” أستاذ الفرنسية المُتدرب الذي رعَاهُ هو نفسه مُذ كان صَغيرا حتى صَار بجنبه ضحِيّة مثله.
اللقاءُ كان عًرضيا وغريبَ الأطوار، تمَاما كغرابة فضَاء المُديرية الذي يشبهُ إلى حدٍّ كبير جُحورَ الأرانب المُتشعّبة المسَالك، حاول أن يجدَ القاسِمَ المُشترك بين “قرار النازلة الجديدة” وبين هذا الفضَاء الهُلامي فلم يَضْفر بشيءٍ ذي مَعنى، عَدا أن التيهَ الغجَري وحدهُ يَعْوي فيهمَا معًا.
سَاَعة ودقائق يتيمة مَضت على جُلوسِه رُفقة استرجَاعَاته الدكتاَتورية التي تجْلده بدُون رحمةٍ، المَقهى بَدأ يدبُّ حَركة، قليلٌ مَنْ تجدهم يَصِلُون رحِم المَعرفة هُنا بقراءةٍ في جريدةٍ أو كِتاب، الناسُ في هذا الجَنوب الشرقي أصَابتهم لعْنة اتباع شهَوات البُطون والفروج، لقد طلقُوا العلم طلاقا ثلاثا لا رجعَة فيه، وربَّما – هكذا هَمْهَمَ في نفسِه – لذلك نزلت عليهِم هذه القرَارات المِيتافيزيقية التي تنبهُهم أنه آن الأوان أن نهْجُرَ الكتاب ونغلق المدارسَ. التفتَ ذات اليمين، أحَدهم لمَس كتِف مِعطفه السَّرمَدي،
-أهْلا أسْتاذ، كيفَ حَالك؟
-أهْلا بعبد الكريم، مَرحبا بك، اجلس،
-أحضرْت اجتمَاع أمْس البارحة؟ مُستجدات النّازلة ناضِجة يانعة،
-نعَم، قُضِي الأمْر الذي كانوا فيه يَسْتفتون، تمَّ الإعْفاءُ بشكلٍ رسْمِي، وعُيِّن “سِي لحسين” بمصْلحة جَديدة، سَمِعتُ أنهاَ خاصّة بأعمْال التنظِيف ومُحاربة ذباب الصَّيفِ، الصيفُ على الأبوَاب يا عَزيزي (صَارع ضحْكة ثكلى تعبُرُ شِفاهه القانية)
قهْقهَ “سَّي حمُّو” بغلظة كرعْدِ مَسَاءات الصّيف في أعَالي البلدة، وهْو يحْجُبُ بكفّهِ اليُسرى البناء العَشوائي الذي أصْبحَت عليه أسْنانه الصّفراء، ثمَّ قالَ:
-تماماً أسْتاذي، المصْلحة ُالعليا فوق كل اعتبار، فالتدابير ذات الأولوية داخلَ الرُّؤية الجديدة 2030 راعَتْ سِياق الحَال واكراهَات المقام، وهذا الإعفاءُ بداية المِشوار.
ثم تابعَ “سِّي حمّو” المُحارب القديم في نقابة التعليم تبسِيط مُستجدات هذه الرؤية الاستراتيجية الجديدة التي تهدف إلى زلزلة البُنى التقليدية المُكتسبة، ونزع الخَافِض في كل مَا هو قائِم حتى يُنصَب للأبد (…) لم ْيقطع لذة حِوارهما الخُرافي الذي وقّدَ وهْجه قرار الاعفَاء الجديد، إلا مُكالمة هاتفية اهتز لها حُطام كأس قهوة واحدٍ جثم بقربه ِهاتفٌ عتيق، استحْوذت على وجْهِهِ ضمَّادات اللصَاق المُثبتة لشاشتِه الثائرة. فورًا أجابَ صاحِبُ الشارب الكثيف:
-آلو …
-نعم ..نعم، هُو هذا بلحْمِه ومَا أبقيتُم مِن شحْمِه !!
-مرْحَبا سيّدي، سَأفعلُ حَالا، احْتراماتي احْتِرا …( ثم سد الخط في وجهه)
لمْلم جُثته المُتشظية فورًا وغَادر المَقهى دُون توديع جَليسه الذي لمْ يستوعِبْ ما جَرى، فالطريقُ من مَقهَى “ليــنا” إلى المُديرية أكبر عِنده مسَافةً من الرَّحيل نحْو كوكب “نِبتُون”، ثمَّة وجبة دسِمَة تنتظِره بلا شكّ.
مَرّت أسَابع وشهور عَديدة وهو إلى جانب “حسين” يُخططان – تحت الوصاية- لمَشاريع مُحاربة أنواع الذباب في المَدارس المغربية، وسُبل تقزيم نضال المُوظفين واقناعهم بجَدوى الاسْتهتار في العمَل و”تْسَرْكِيل” في المَهام المَنُوطةِ إليهم، مع برمَجة سِيَرهم الذاتية في حِصَص دعْمٍ تذكيرا بخطورة العمَل بجدّ أو التفاني في العَمل، لأن ذلك يُسبّب إسْهالا خطِيرا، قد يُؤدي بصَاحبه إلى الاعفاء نهائيا من العمَل، وترقيته إلى سلالم المَجهُول.
طِيلة عَمله فِي المُهمة الجَديدة لم يمُرْ بمقهَاه المَعهُودة، شيء ما يَمنعه مِن الجُلوس بها، يَختلط ُ احسَاسه بحقيقة ذلك بين ثمَن كأس قهوته الذي لم يُسدّده لِنادل المَقهى، وبين صَفعة تلك المُكالمة اللئيمة التي وخزت كيانه وأصَابته برُهَاب الجُلوس في ذلك المَكان نهائِيا. يَخُط الشارع الكبيرَ مُدندنا بأغاني شيخَاتِ الزمَن الجميل، لقد أرْخَى سُدولَ تفكيره هذه المرة، ولم يعُدْ يجلِسُ إلا في مَقاهي الهَامش التي لا يُناقش فيها أمُور التعليم والسِّياسة.
(محمد بوطاهر – تنغير في 28 فبراير 2017)
المصدر : https://tinghir.info/?p=26355