أجلس في ركن بهوي الصغير المخضر بغطائه الفستقي الداكن…تحملني أساور التفكير لعوالم خاض فيها الفكر الإنساني منذ وجوده و لا يزال. أسئلة وجودية تتكرر في ذهني لتجري في أنسجتي الدماغية مشكلة جداول تتسرب فيها تيارات نقدية تتأرجح بين الاعتقاد و التوحيد و تنتهي بالجدل الشكلي لمسألة العدمية المتداولة بعد الموت…فهذا التصارع التاريخي لمسألة التوحيد و الحس العقائدي بكافة أشكاله المختلفة (الدين) ضد الوجودية المنطقية للعلميين المتشبعين بفكرة العدمية بعد نهاية المسار الحياتي ما يزال قائما إلى هذه اللحظة و لن يزول إلا بعد أن نفنى…ليبقى التساؤل القائم هو ما الفرقة التي فهمت مسار حياتها بشكل صحيح لن تندم على تبنيه لها؟.
بدأت ألحظ مع مرور الزمن و رجحان العقل في عمري أن عددا من المعتقدين أصبحوا مشككين فيما يخص وجود الله و منهم عدد من الرفاق الذين جمعتني الطفولة بهم لتفرقنا مساراتنا الدراسية فيما بعد لنعود بعد لقيانا بأفكار مختلفة و معتقدات لا تشبه إحداها الأخرى.. فهذه النقاشات جعلت في نفسي أثرا بليغا لا يمكنني أن أتجاهله.. لهذا قررت أن أجمع له العدة و العتاد لأركب سفينة التنقيب فيما يخص مسألة الوجودية و العدمية، وقوفا عند الربوبية و الإلحاد نظرا لأن هذه الزوبعة الفكرية العقائدية تتمحور بالأساس على وجود الله من عدمه.
لا أخفيكم علما أن الفلسفة القديمة و الحديثة تناولت هذا الموضوع حيث تعددت النظريات و تشعبت لتغوص في أعماق تجعلك تائها كأني بك وسط دوامة فكرية تجرك إلى ثقل مركزها لتقذف بك الى موجة تستوعبها من الناحية التأملية.. شخصيا أحببت البدء بالتمييز بين الذات النفسية المجردة و الذات البنيوية المجسدة لفهم العلاقة الكائنة بينهما فالأولى تجعلك تتوغل في منابر فلسفية صرفة تؤكد وجود ذات فوقية تعلوها لترتبط بها في علاقات كونية وجودية تقودك إلى البحث عنها لرفع الإبهام و الغموض الحاصل، غير أن في هذه النقطة بالذات تختلف المعتقدات لتبرز عديد التسميات لتتخذ كل ذات نفسية اسما لما يعلوها قوة و حكما لتفسر هذه الكينونة لدى البعض بالدلالة الوجودية لذات إلهية تطمئنها و تجعلها أقل ارتيابا لكي لا تعيش في اضطرابات تزعزع منطقها.
أما البعض الآخر فيتيه ليغوص في تيارات أخرى تفسرها بصراع العقل و النقل. لتؤكد في مرسوم دلالتها وجودا نوعيا لنفس تعلو ذاتها لكنها تبقى محل دراسة سريرية لا علاقة لها بذات إلهية حيث تفسر بالتطور الوظيفي لعقل يبتكر و يتأقلم لصناعة رونق فكري يتطلع للعيش لحظيا و ماديا في صدفة علمية تؤهله لأن يكون إله نفسه و خادم فطرته بوضع قوانين تخدم إنسانيته لا باتباعه لفكر ديني معين فالإنسانية و العقل السليم سمات تدل على اتخاذهم لها ربا يحكم الناس و يفصل في أمورهم ما دامت الحياة مستمرة ليزول بمجرد نهاية هذا العالم الذي يجهل الكل مصيره في ترجمة لعجز في قراءة قطعية يقينية للغيب و اساريره. فمن يستطيع الجزم أن الدين و تطلعاته المستقبلية يقين يجب التصديق بها ما دام أنه يفتقر لأساليب الإقناع المادية التي يطالب بها معارضوه و يخاطب الروح الإنسانية مؤكدا في فلسفته ان هذه الأخيرة يجب تقديمها في مسائل ما وراء الطبيعة لما يسمى بالحياة البرزخية او ما الى ذلك من التسميات في مختلف الديانات التي تؤمن بذلك العالم الفسيح الذي يجعل من حياتهم الأرضية كتاب امتحان لابد له من تصحيح بقلم رباني عادل (القسطاس المبين). وهو الحال نفسه بالنسبة لأولئك الطبيعيين الماديين فهم ايضا لا يختلف موقفهم الرامي بالتصديق من ان المصير الذي يلقاه الإنسان بعد موته هو مصير تقليدي حاله حال الحيوانات و النبات ليصبح مادة عضوية لا تتعدى بضع سنوات لتتحلل، و تندثر لينسى إلى الأبد و يصير نسيا منسيا كأنه لم يكن.
فهذا القول لا يستطيع أحد منا إثباته بشكل قطعي من حيث السيرورة الزمنية، ولأنهم يغفلون عن إعطاء مصير الروح التي تجعلهم يبدعون في القول و التفكير والعطاء والتدبير وهم على قيد الحياة فكيف ينتقصون من شأنها و هم في الممات.؟
المصدر : https://tinghir.info/?p=26266