هذه النظارة التي تصحح بصري وتقومه.. هذه الملابس التي تقيني من البرد.. هذه الكتب والدفاتر والأقلام التي تعينني في الدراسة.. هذه الدراجة التي تختزل علي الزمن والمسافة.. هذا الهاتف النقال… كل هذا هو نتاج تقدم الغرب، في الوقت الذي نكتفي فيه نحن باستهلاك ما ينتجه، وفي ذلك ما يشي بتخلفنا. فما التقدم؟ وما التخلف؟ على أي نحو يتعالقان؟ ما الغرب؟ ومن نحن؟ هل تقدم الغرب فعلا وتخلفنا نحن؟
يعني التقدم كل تطور كمي أو كيفي، إيجابي أو سلبي، وفي هذا التحديد ما يشي بتجاوز الدلالة العامية للتقدم باعتباره حصريا ارتقاء نحو ما هو أفضل وأحسن. بينما التخلف تطور يرهن علاقة الإنسان بالزمان والمكان والإنسان بالسلب. يلتقي هنا التقدم بالتخلف من خلال معنى السلب الحاضر في المفهومين معا. غير أن ما يلقي بهما في دائرة المفارقة هو تجسيدهما لحكمي قيمة حين يتم توصيف وتصنيف مجتمعات وفقا لسلم متدرج يتحدد فيه موقع المتخلف في درجة ما في الأسفل، ذاك الذي لم يبلغ الدرجات العليا التي بلغها المتقدم، والذي وضع هذا السلم ويريد من الآخرين أن يتسلقوه ويرتقوا درجاته، ويقيس صعود المتخلفين بما قطعه هو نفسه في ارتقائه للقمة. هذا ما فعله ليفي برول بحديثه عن العقلية ما قبل المنطقية لدى الأقوام الموسومة بالبدائية، نفس الشيء يصدق على أوغست كونت باختزاله التاريخ البشري في قانون الحالات الثلاث (اللاهوتية، الميتافيزيقية، العلمية/الوضعية)، وعلى الماركسية هي الأخرى والتي تتحدث عن المشاعية كبداية للتاريخ البشري وعن الشيوعية كنهاية حتمية له، وهي كلها تواريخ أوربية خالصة تسقط إسقاطا على تواريخ الأمم الأخرى. وهناك من يقحم العرق والوراثة، أو المناخ والجغرافيا في المقارنة بين المتقدم والمتخلف وتبرير حالهما ووضعهما الراهن.
هذا الآخر المتقدم بالنسبة إلينا نحن المتخلفون هو الغرب، وهنا نتساءل: ما هو هذا الغرب الذي نضعه في موقع الآخر المختلف والمخالف والمتقدم؟ أنعني به الحضارة اليونانية القديمة مهد الفلسفة والتراث الفلسفي القديم؟ أم هو غرب القرون الوسطى أو عصور الظلام التي تحنط فيها الفكر والإنسان بأمر من سلطات الوصاية الكنسية؟ أم هو الغرب الذي يدين بالمسيحية ويؤله عيسى الإنسان؟ أم هو الغرب العلماني الذي فصل الدين عن الدولة؟ أم هو غرب الحداثة بشتى تلويناتها وتفرعاتها؟ أم هو غرب ما بعد الحداثة؟ من هو إذن هذا الغرب الذي نقيس به ذواتنا نحن؟ سنجيب بالقول إنه العالم المسيحي والذي يضم أوربا وأمريكا الشمالية، وإن كانت هناك دول أخرى متقدمة لكنها لا تنتمي إلى حضارة الغرب. أما نحن، فننتمي إلى الحضارة الإسلامية، وهي أشمل من أي نحن
أخرى، لأنها تضم أعراقا وأجناسا مختلفة وليس العرب وحدهم. طبعا، هناك من يصنف ال”نحن” ضمن دول الجنوب، أو العالم الثالث، أو الدول النامية، أو السائرة في طريق النمو، لكنها تصنيفات هي الأخرى لا تخلو من قدر إيديولوجي يسفه الواقع أو يحابي صناعه، إذ يمكن هنا أن نتساءل: هل كل دول الجنوب متخلفة؟ هل تمثل دول الشمال كلها العالم الأول؟ من يمثل العالم الثاني إذا كنا نحن عالما ثالثا؟ هل نحن دول نامية أم سائرة في طريق النمو؟ وهل معنى هذا أن دول الغرب تجاوزت التنمية؟ في جميع الأحوال هناك حرج منهجي وابستيمولوجي حاضر بخصوص أية تسمية تظهر أو تطمر، الأمر هنا يشبه ذلك الصراع الذي ساد خلال الحرب الباردة بين مفهومي العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، لذا نقتصر على الدلالة التي وقفنا عندها آنفا لنعرف: ما سبب تقدم الغرب وتخلفنا نحن؟
يقول ديكارت إن أجل نعمة ينعم بها الله على بلاد هو أن يمنحها فلاسفة حقيقيين، وإن ما يميز المتحضرين عن الأقوام المتوحشة هو الفلسفة، وقد نعم الغرب بنشأة الفلسفة في أحضانه في الزمن اليوناني القديم. سبب التقدم إذن قديم، لكنه أيضا حديث، لأن فكرة ديكارت عن المنهج ودعوته إلى السيطرة على الطبيعة عوض تأملها هي التي ستمهد الطريق أمام العلم المادي. وهذا ما جاء به فرانسيس بيكون حين أبدع المنهج التجريبي الذي سيتحول عندنا، كما هو شأن كثير من النظريات والأفكار الغربية، إلى حقيقة مطلقة نرى فيها إكسير تقدمنا.
والعقل، الذي هو أساس الفلسفة والمنهج، هو الذي سيقفز بالغرب إلى الأمام ويضمن له البقاء في القمة، إذ صار كل شيء خاضعا للنظام والحساب والتخطيط، هذا فضلا عن سيادة دولة الحق والقانون وأخلاق المسؤولية والمحاسبة، حتى الدين خضع لعملية عقلنة نتج عنها ظهور البروتستانتية التي يعدها ماكس فيبر سبب قيام الرأسمالية ونشأتها. بينما نحن نسير في ظلام دامس بلا عقل ولا منهج ولا علم، كل شيء في حياتنا يرتهن بالقدر والصدفة والخرافة، وهكذا يندر ألا تلتقي بالاستبداد والخرافة في الحكومة والحزب والنقابة والجمعية والفريق الرياضي، ويندر ألا تلتقي في أية قبلة تولي نحوها وجهك بالجهل والقهر والمرض والصبر. الشيء الذي نبدعه حقا ونخفي به تحولنا المعاق هو ما يتعلق بالشعارات والمؤسسات الجوفاء التي لا تفرخ سوى الإعاقة بشتى أصنافها، مؤسسات مثل الحزب والنقابة والجمعية والبرلمان والشركة والمقاولة لا تحمل من مفهوم المؤسسة سوى الاسم، أما وظائف الحداثة التي أنيطت بها فهي غائبة، أو هي على الأصح، غيبت ليظل الملمح الباطولوجي هو سمتها البارزة والمهيمنة. يقول أحمد المديني:”فأحزابنا لا تستعير من الغرب مضامينها وحدها، بل شعاراتها أيضا، هذه الوردة شعار الحزب الاشتراكي الفرنسي، وبها خاض انتخابات الرئاسيات التي فاز بها فرانسوا ميتران في أبريل سنة 1981 … وردة حمراء قانية وردة صغيرة وزاهية، وهذه ضخمة وبنفسجية، وقلت يا سيدي ربي ماذا لو ابتدع الاشتراكيون المغاربة لهم شعارا من وحي ببيئتهم وطبيعتهم. استحضرت شقائق النعمان، أغصان الزيتون، غيصنات النعناع وشجيرات اللوز، كثير، كثير لكن يبدو أن هؤلاء الناس يشربون من نبع آخر”1.
نسمي مثلا بطولة كرة القدم الوطنية بالاحترافية، لكن رأينا كيف يفلت وزير من المحاسبة بعد إهدار الملايير في إعداد ملعب، وحتى مصطلح خروجه من الحكومة أصابه الخرف: هل استقال أم طلب إعفاءه أم أعفي من مهامه؟ ما نعرفه حقا هو أن الوزير لدينا مهما ارتكب من الفضائح والفظاعات فإن ذلك لا يزيده إلا تشبثا بالكرسي، وإذا أزيح عنه فإنه يكافأ بحقيبة أخرى أو بكرسي آخر أو
——————————————————-
– أحمد المديني، المخدوعون، رواية، منتدى المعارف، بيروت، 2012، ص184.
بمسؤولية أخرى يلقي بأوزارها على الآخرين. ورأينا كيف تطبخ المكاتب المسيرة وتشكل في الكواليس ضدا على شروط الترشح والانتخاب، وكيف يتم تغيير المدربين في غضون أسابيع قليلة، وكيف لا زال لاعبونا يلعبون بعقلية الهواة، وكيف أن آخرين يتذمرون ويحتجون ويمتنعون عن خوض التداريب والمباريات بسبب تأخر صرف مستحقاتهم المادية، وكيف أن ملاعب تفتقد لشروط الفرجة والتنظيم كما هي في الغرب، وكيف أن جمهورا مهووسا بالشغب والتدمير حد القتل، حتى بين مشجعي الفريق الواحد، كما وقع لمشجعي الرجاء البيضاوي فيما بينهم.
وفي السينما الارتجالية ذاتها، يمنح المخرج دعما وعوض أن يبحث عن أطراف أخرى تكمل القيمة التي يتطلبها إنتاج الفيلم، يكتفي بذلك الدعم، ويدخر أغلبه لنفسه ويدسه في جيبه، وينجز بالباقي الفيلم. والممثل يتحول بقدرة قادر إلى مخرج، ولا يكتفي بأن يكون مخرجا، بل يجب أن يكون إلى جانب ذلك صاحب القصة والسيناريو، ومدير التصوير ومصمم الديكور والمنتج ومنفذ الإنتاج، مخرج يريد أن ينجز كل شيء، وفي النهاية يكون إنجازه أقرب إلى خربشات. مخرج يتخلى عن الممثلين المؤهلين والمحترفين ويعوضهم بأسماء نكرة وبأخرى لا تستنزف ما قرر أن يدخره لنفسه ويدسه في جيبه. والممثل يؤدي أي دور وكل الأدوار، لأن المسألة في نظره أولا وأخيرا هي مسألة خبز، ولا حيلة مع طلب الرزق، حتى مع أرذل الأدوار وأوقح الأوضاع وأسوء الشروط، ولهذا يؤدي أغلب الممثلين الأدوار ذاتها بنفس النمطية. هنا أيضا، لا قصة ولا حوار ولا سيناريو ولا إخراج ولا تصوير، هذه فقط أسماء مستعارة لأشياء تصنع الفيلم الشبح. في سينمانا إذن، لا عقل ولا منهج ولا علم، و والأقبح لا جمال إلا فيما ندر. ففي سينمانا فقط تحدث المعجزات والخوارق، وتبطل السببية التي تحكم العالم والأشياء، إذ كيف لعاقل أن يفسر أن يقفز ممثلان من علو شاهق، ثم يقومان من على الأرض دون أن يقع لأي منهما شيء، فيستأنف أحدهما الهروب والآخر المطاردة؟ وكيف لكمان تشهمت أضلاعه وتحول إلى شظايا متناثرة، ثم يعود كما كان في يد حامله سليما معافى دون أن يمسه سوء؟
وفي مؤسساتنا التربوية المزاجية ذاتها، مزاجية وزير يمحو بجرة قلم ما سبق أن خطه سلفه ليخط من جديد ما يتناسب مع وجهة نظره، ولا أدل على ذلك برنامج استعجالي جاء مستعجلا، ورحل كما جاء مستعجلا، بعدما استنزف ميزانية باهضة قدرت بعشرات الملايير من الدراهم (33 مليار درهم حسب تقدير الوزير بلمختار)، لم يصل منها سنتيم واحد إلى أي تلميذ والذي نعده في الأبجديات التربوية مركز العملية التعليمية- التعلمية. لم يعد حقل التربية والتعليم مركزيا أو جهويا أو اقليميا سوى مرتع للارتزاق، والاغتناء، وعقد “الصفقات”، واختلاس الأموال، والشطط في استعمال السلطة، ونريد بعد كل هذا الفساد الذي ينخر التعليم المغربي أن نربي النشء والناشئة على قيم المواطنة وحقوق الإنسان، وننتظر من مدخلات مثل هاته أن تنتج لنا مخرجات مثل تلك التي نخطها في الكراسات الرسمية. وهذا معناه أن المدرسة العمومية بمختلف مستوياتها عجزت عن القيام بأدوارها لأنه أريد لها ذلك. “كيف أقول لمحجوب إن الوزير الذي قال في خطابه الضافي الذي قوبل بعاصفة من التصفيق:”يجب ألا يحدث تناقض بين ما يتعلمه التلميذ في المدرسة وبين واقع الشعب. كل من يتعلم اليوم يريد أن يجلس على مكتب وثير تحت مروحة… إننا إذا لم نجتث هذا الداء من جذوره تكونت عندنا طبقة برجوازية لا تمت إلى واقع حياتنا بصلة…” كيف أقول محجوب إن هذا الرجل بعينه يهرب أشهر الصيف من إفريقيا إلى فيلته على بحيرة لوكارنو، وإن زوجته تشتري حاجياتها من هرودز في لندن، تجيئها في طائرة خاصة، وإن أعضاء وفده أنفسهم يجاهرون بأنه فاسد مرتش… هؤلاء قوم لا
هم لهم إلا بطونهم وفروجهم. لا يوجد عدل في الدنيا ولا اعتدال”2. هذا ما جاء على لسان الطيب صالح وهو يعكس واقع الحال في كثير من الدول المتخلفة.
ومدننا هي الأخرى ليست مدنا، ولا ينبغي لها أن تستحق هذا الاسم. مدن لا تتوفر على بنية تحيته ومرافق ضرورية للعيش الكريم لا تستحق هذا الاسم. مدننا فوضى، طرقنا وشوارعنا وأزقتنا فوضى، وأحياؤنا ومساكننا فوضى. إداراتنا ومستشفياتنا ومدارسنا فوضى. جسورنا وقناطرنا نظل نشيدها ونعيد تشييدها، وطرقنا المعبدة نعيد تعبيدها ونعيد حفرها بعد أن يتبين لنا أننا نسينا تمرير قنوات الصرف الصحي، وحين “ينتبه” مسؤولونا إلى أن قنوات الماء الشروب لم تمرر تحت الأرض قبل تعبيد الطريق يعاد الحفر مرة أخرى، وحين “ينتبه” هؤلاء إلى الأسلاك الكهربائية وأسلاك الهاتف والانترنت لم تمرر هي الأخرى يعاد الحفر من جديد. ومن كثرة ما ألفنا الحفر صعب علينا البناء فينهار أغلب ما نبنيه من منشآت فينة، رغم أن المختصين هم من يتكلف ببنائها ومراقبة جودة بنائها، ومع ذلك تسقط لأن فسادا استشرى في المؤسسات، فصاروا يدعون الرب في الخفاء أن تصمد قليلا قبل أن تظهر عيوبها أو تسقط عند أول قطرة غيث، ليتسابقوا من جديد لاقتناص صفقة أخرى جديدة وأموال أخرى تخصص لإعادة بنائها أو إخفاء عيوبها، أو تترك لعيوبها وبعيوبها لأن المشيئة الإلهية أو الطبيعة وحدها شاءت ذلك، وهي السبب في ذلك. والمحصلة في النهاية هي مجتمع ليس بمجتمع، هذا المفهوم الذي يقوم على التعاقد لا وجود له.
لقد استشهدنا هنا بأمثلة مغربية أساسا، لكن الحال هي نفسها في جميع البلدان المتخلفة، ولاسيما تلك التي تنتمي إلينا وإن اختلفت المؤشرات الكمية أو المراتب التي تصنف فيها هذه الدول، كما تفعل الأمم المتحدة، حين تحصي مؤشرات التنمية في بلد لتقرر عند أية درجة من السلم بلغت قدماه، فإن الحال تكاد تتشابه. وليست المقتنيات التكنولوجية هي التي ستغير واقع الحال هذا، فتيار الحداثة يجرف معه الصالح والطالح في مجتمع، والاستعمار كمثال بقدر ما شكل صدمة اقتحمتنا فيه الحداثة الغربية دون استئذان، بقدر ما خلف من الإعاقات ما جعلنا نستنزف قوانا في الحروب حول الحدود والسلطة، غير أن المسؤولية تقع علينا لأننا نحن الذين أفسحنا للغرب المجال ليستعمرنا. فهل يمكننا أن نتحدث هنا عن تخلف الغرب وتقدمنا نحن؟ وبعبارة أخرى، هل تقدم الغرب في كل شيء وتخلفنا نحن في كل شيء؟
إذا نظرنا إلى الأبناء وهم يلقون بآبائهم في دور العجزة، وكأنهم أدوات مهترئة انتهت مدة صلاحيتها، أو ملابس بالية لم تعد صالحة للاستعمال، وإذا نظرنا إلى محلات تجارية تعرض عبر واجهاتها بضاعة خاصة، دمى آدمية عارية هي فتيات استقدمن من أوربا الشرقية التي نخرها الفقر والفساد بعدما تخلى عنها الرأسمال السوفياتي، وإذا نظرنا إلى موجة العنصرية التي تتصاعد إثر كل أزمة يمر بها الغرب كهذه الأزمة التي اندلعت خريف 2008 والتي قوضت أركان النظام المالي والاقتصادي للبلدان الرأسمالية3؛ إذا نظرنا إلى كل هذا سنقول إن الغرب تقدم لكن على نحو سلبي، والتقدم الذي يتباهى به ويعده المآل الحتمي الذي يجب تبلغه جميع المجتمعات لتلتحق بكوكبة المتقدمين ما هو في نهاية المطاف سوى حقيقة نسبية يخترقها السلب.
—————————————————-
– الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال، رواية، دار الجبل، بيروت، بدون تاريخ، ص144-145. 3 – يقول أولريش شيفر بهذا الصدد:”ستنشأ على أنقاض الأزمة أحزاب يمينية ويسارية جديدة يقودها مشعوذون يجيدون التلاعب بمشاعر العامة، ويتقنون إقناع البسطاء من الناس بأن الطريق للخروج من الأزمة غاية في البساطة، مع علمهم بأن كسر طوق الأزمة ليس بالأمر الهين، وأنه يتطلب جهودا شاقة”. انظر: أولريش شيفر، انهيار الرأسمالية: أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود، ترجمة عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 371، الكويت، يناير 2010، ص 438.
—————————————————–
يذكر طه عبد الرحمان أن حداثة الغرب أصابت الزمان والمكان والإنسان بالدمار، لأنها حداثة مادية فارغة من القيم الإنسانية والروحية والأخلاقية، وهذه القيم هي التي الوجه المنير في الخطاب والحضارة الإسلاميين. نستطيع أن نستشف ذلك من الخراب الذي أحدثه الغرب في تراث بلاد الرافدين وميراثها المادي والرمزي، والخراب الذي شمل الطبيعة فأخل بتوازن منظوماتها البيولوجية والايكولوجية إلى حد صارت تهدد فيه الإنسان ذاته، بسبب تأليه متعجرف للإنسان ولقدرته المطلقة على السيطرة على الطبيعة وغزو الفضاء، والخراب الذي أصاب الإنسان بتأليه الجسد والغرائز الهوجاء إلى حد الاعتراف بالشذوذ الجنسي وتقنينه، وإنشاء أبناك للحيوانات المنوية والبويضات، وتأجير الأرحام، والقيام بعمليات لتغيير الجنس4.
لقد تقدم الغرب، وهذه هي الحقيقة التي يمكن الانتهاء إليها، لكنه لم يتقدم في كل شيء، وأي نموذج للتقدم يقدم لنا نحن فهو ليس بحقيقة مطلقة صيغت خارج سياق التاريخ والشرط الإنساني الذي يضع التقدم في إطار النسبية الثقافية، وهذا ما يعلمنا إياه الدرس الأنثروبولوجي. أما تخلفنا نحن، فهو كذلك حقيقة، وهي الحقيقة التي يمكن تغييرها إذا تسلحنا بأسباب تقدمهم وتخلينا عن أسباب تخلفنا.
——————————————
– عمر بوفتاس، موقع البيوتيقا في إطار المعرفة الإنسانية المعاصرة، مجلة فكر ونقد، العدد 39، المغرب، مايو 2001، ص 21.
المصدر : https://tinghir.info/?p=25675