رحلة شبه يومية من المعاناة تلك التي تخطها أقدامُ أناسٍ وجدوا أنفسهم مكرهين على تجديد شحنات شرايينهم بدماء جديدة لعلها تخلصهم من عذابات “سيزيفية ” أرهقت كاهلهم. بوجوه صفراء متعبة وحالة نفسية محطمة في مشهد يلخص معاناة مرضى القصور الكلوي بإقليم تنغير.
بالرغم من الاختلاف في الأسماء والأعمار، فهم شركاء في معاناة يعيشونها مرتين كل أسبوع داخل مركز تصفية الدم، أو ما يصفه بعضهم بـ”حجرات التعذيب” بعد إصابتهم بالمرض المزمن، الذي يعنى الإصابة بالعديد من الأمراض الخطيرة الأخرى؛ في مقدمتها الفيروس الكبدي الذي ينهش أكباد بعضهم خلال الأيام المتبقية لهم في الحياة.
بمجرد دخولك إلى مستشفى تنغير، وعلى الجانب الأيمن، تتوقف رغما عنك لترى أولئك الأشخاص الذين يدخلون ذلك المركز الذي تشير لوحة إشهارية إلى أنه مركز الرحمة لتصفية الدم. أمامه تجد كل يوم عددا من النساء والرجال، شبابا ومسنين، توقفت أحلامهم فجأة ينتظرون ضخ دماء جديدة في أجسامهم، التي أتعبتها وأرهقتها الإبر والآلات الطبية الخاصة بالتصفية، ينتظرون أملا يعيد إليهم الحياة.
معاناة هذه الفئة ليست بالعادية، حيث تستطيع قراءة فصولها في وجوههم وهم يجلسون على كراس في انتظار أدوارهم في تصفية الدم، ينتظرون إشارة الممرضين والممرضات ليتمددوا على الأسّرة. سيناريو معاناتهم يتكرر مرتين كل أسبوع، ولمدة خمس ساعات في كل حصة.
خصاص مهول ومرضى في ازدياد
تشير إحصائياتٌ إلى أن أزيد من 120 شخصا يعانون من القصور الكلوي بإقليم تنغير، دون الحديث عن المقيمين بالمهجر الذين يتوافدون على الإقليم في فصل الصيف. بعض هؤلاء يتابع علاجه بمركز الرحمة لتصفية الدم، بالمستشفى الإقليمي لتنغير، والبعض الآخر يتجهون نحو مستشفيات الأقاليم الأخرى المجاورة، كالرشيدية وورزازات أو إلى مراكش، بسبب النقص والخصاص الحاصل في عدد الأسّرة والآليات الخاصة بتصفية الدم ومعالجة الماء، حيث تبلغ الطاقة الاستيعابية لمركز الرحمة بتنغير 53 سريرا فقط.
وحسب مصدر مسؤول داخل مركز الرحمة، فضّل عدم الكشف عن اسمه، فإن عدد الأشخاص في لائحة الانتظار بلغ حوالي 12 شخصا، ينتظرون دورهم في العلاج، أغلبهم يقطنون بعيدا عن مركز تنغير بحوالي 100 كلم، مضيفا أن عدد الآلات الخاصة بتصفية الدم بتنغير غير كافية، نظرا للعدد المتزايد من المرضى، مذكرا أن عشرة آلات هي التي تعمل إلى حد الآن وثلاث أخرى غير مشغلة بسبب عطب تقني.
هذه الشريحة، خاصة القاطنة بالنفوذ الترابي لدائرة بومالن دادس، تنتظر افتتاح مركز تصفية الدم بقلعة مكونة، الذي تبلغ طاقته استيعابية حوالي 60 سريرا. ومن المنتظر أن ينهي المركز الجديد معاناة العديد من هؤلاء المرضى، وخاصة أولئك الذين ينتقلون إلى ورزازات أو الرشيدية، والقادمون من جماعات ترابية نائية.
ويشرف على مركز الرحمة لتصفية الدم بتنغير فريق طبي مكون من 11 ممرضا، 5 منهم تابعون لوزارة الصحة وستة آخرون ينتمون إلى الجمعية المشرفة على المركز، ومن طبيبة متخصصة في أمراض الكلي، بينما يطالبُ مرضى الجهةَ المسؤولة بضرورة إيفاد لجنة كل أسبوع للوقوف ومراقبة عمل الفريق المشرف على المركز، حفاظا على صحتهم وسلامتهم.
معاناة مستمرة
ربط القدر مصيرهم بآلات ”الدياليز”، تمتزج في عيونهم نظرات اليأس والحزن وهم على سرير المرض وأنابيب تصفية الدم مربوطة إلى أجسادهم النحيلة، لأن الكلى عجزت لسبب ما عن القيام بدورها وأوكلت المهمة إلى آلة تصفية الدم التي استطاعت تخفيف الألم ومنحهم جرعة أمل إضافية في الحياة.
لم يخف هؤلاء المرضى، الذين التقت بهم جريدة هسبريس في مركز الرحمة لتصفية الدم بمستشفى تنغير، معاناتهم مع مرضهم ومع الآلة التي أبعدتهم كثيرا عن الحياة الطبيعية.
مرضى القصور الكلوي القادمون من بومالن دادس، والذين تحدثوا مع الجريدة بأسماء مستعارة، حفاظا على مكانتهم في المركز ومتابعة العلاج، يقولون إن معاناتهم تبدأ رحلتها منذ فجر يوم الغسيل، من الاستعداد للذهاب إلى مركز التصفية بمركز تنغير، حيث تنقلهم سيارة إسعاف وضعتها الجماعة رهن إشارتهم، قاطعين مسافة نحو 60 كيلومترا ليصلوا إلى مركز التصفية الذي تسيره جمعية القصور الكلوي بتنغير، حيث يمكثون تحت رحمة آلة الغسيل الكلوي نحو خمس ساعات، وما يصاحب ذلك من إرهاق وتعب نفسي وجسدي. بعد انتهاء الحصة، يقطعون المسافة ذاتها في طريق العودة؛ وهو ما يجعل معاناتهم مضاعفة ويجعلهم يشعرون بالحاجة للراحة طيلة اليوم على الأقل.
“تزداد معاناتنا بالاضطرار للتنقل إلى مدينة مراكش مثلا لإجراء التحاليل اللازمة بشكل دوري؛ لكن المصيبة الأكبر هي في العديد من الحالات التي توجد في لوائح الانتظار، بحكم قلة التجهيزات والأسّرة والمعدات المخصص لتصفية الدم، حيث يجد المصاب نفسه أمام خيار السفر إلى مدن بعيدة لإجراء حصص الدياليز في المصحات الخاصة، والتي تكلف حصة واحدة نحو 800 درهم، أو انتظار الموت في سرير أسرته”، يقول أحد المرضى.
سعيد، اسم مستعار، هو أحد أقدم المرضى الذين يتابعون حصص علاج تصفية الدم بمركز الرحمة، يقول: “لقد مرت السنوات بسرعة، ووحدها حالتي الصحية بقيت كما هي لم تتغير”، يردد سعيد بعينين شاردتين. ليس من السهل عليه أن ينسى موعد علاجه الذي حدده الطبيب وهو يومين من كل أسبوع وضبط إيقاع حياته للأبد على هذين اليومين، “تدوم كل حصة 5 ساعات، ويتم غرز حقنة في أعلى الساق، تؤلمني في البداية؛ لكنني أتحمل كل ذلك، لأن الألم سرعان ما يزول”، يكشف عن يده اليمنى التي تغطيها ندوب عميقة هي آثار سنوات من العلاج المتواصل.
ويستطرد سعيد بنبرة لا تخلو من سخرية: “من كثرة الحصص التي تابعتها، أصبح غرز الحقنة في جلدي طقسا مألوفا لدي. المشكل هو أنهم اختاروا منذ سنتين أن يثبتوا الحقنة في ساقي اليسرى. يبدو الوضع مربكا؛ لكنني متأكد من أنني سأتكيف مع هذا التغيير” مضيفا “لا أعلم ما الذي سيحل بي لو توقف العلاج في أحد الأيام، كنت بصحة جيدة في شبابي وأمارس أنشطتي بشكل طبيعي، أما الآن فأحس بالعجز”.
لا تختلف الحالة الاجتماعية لسعيد عن باقي المرضى الوافدين إلى مركز الرحمة لتصفية الدم الذين يستفيدون من العلاج التي تشرف عليها الجمعية النشيطة في هذا المجال.
انقطاع الماء
انقطاع الماء بشكل مستمر بمركز الرحمة لتصفية الدم بتنغير، وغياب صهاريج مائية احتياطية كافية قد يتسبب يوما في وقوع كارثة من شأنها التسبب بوفيات.
مسؤول بالمستشفى الإقليمي لتنغير أرجع سبب انقطاع الماء عن المركز إلى كون المستشفى والمركز جرى تزويدهما من الأنابيب نفسها التي تستفيد منها الدور السكنية، مشيرا إلى ضرورة العمل من أجل عزل أنابيب الماء الخاصة بالمستشفى والمركز حتى لا يتكرر المشكل.
وذكر المتحدث أن القائمين على قطاع الصحة بالمدينة يتصلون في كل مرة بالوقاية المدنية والبلدية، لتزويدهم بصهاريج الماء من أجل إنقاذ الموقف وإنقاذ أرواح المرضى، المرابطين بالآلات الخاصة بتصفية الدم.
دعواتٌ لتوفير تغطية صحية شاملة
مرصد دادس للتنمية والحكامة الجيدة طالب بإدخال التعويضات عن الإقامة بمدن بعيدة قصد العلاج والاستشفاء ضمن التغطية الصحية، حيث أوضح كريم اسكلا، رئيس المرصد سالف الذكر، في تصريح لهسبريس، قائلا “من بين المواضيع التي نتداول بخصوصها داخل المرصد على مستوى قطاع الصحة بالمنطقة هو أن نظام التغطية الصحية لا يشمل التعويض عن التنقل والإقامة بمدن بعيدة قصد الاستشفاء من أمراض جد خطيرة؛ فمثلا عندما يضطر مصاب من إقليم تنغير أو زاكورة أو ورزازات مثلا لإجراء حصص الدياليز في مصحة خاصة بمدينة مراكش، بعد فشله في إيجاد مكان في تنغير أو ورزازات، يعني أنه ملزم بالإقامة بتلك المدينة بشكل دائم إلى أن يجد مكانا شاغرا في أقرب مركز تصفية إلى مقر إقامته. وفي هذه الحالة، يتحمل مصاريف تلك الإقامة هناك من كراء وتغذية على حسابه الخاص. وهذه المصاريف الإضافية لا يتم تعويضها”.
ويضيف الناشط الحقوقي: “لقد رصدنا خمس حالات من هذا القبيل على مستوى الإقليم خلال السنتين الأخيرتين فقط، تحملوا مصاريف الإقامة بمدن أخرى لمدد تتراوح بين سنتين وثلاث سنوات، بالإضافة إلى عدم التعويض عن التنقل إلى مدن بعيدة لإجراء التحاليل الدورية”.
ويشدد المتحدث ذاته على أن “هذا الموضوع يتطلب ترافعا جماعيا، وبالخصوص في حالة الأمراض المزمنة التي تتطلب السفر إلى مدن بعيدة عن الأهل والإقامة بها لمدة طويلة قصد الاستشفاء، لا سيما في ظل عدم إمكانية الاستقرار بالمستشفيات أو المصحات في مثل تلك الحالات”.
مندوب وزارة الصحة يوضّح
من جهته، قال مصطفى الطيب، المندوب الإقليمي لوزارة الصحة بتنغير، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس، إن عدد المرضى بالإقليم لا يتجاوز 110 مرضى؛ من بينهم المستفيدون من الضمان الاجتماعي، والذين يتابعون علاجهم بمركز الرحمة، نظرا لغياب المصحات الخاصة.
وعكس ما صرح به مصدر داخل مركز الرحمة لتصفية الدم، الذي قال إن حوالي 12 شخصا في لائحة الانتظار، أكد المندوب أن العدد لا يتعدى أربعة أشخاص، مذكرا بأن الطاقم الطبي والآلات الخاصة بالتصفية ومعالجة المياه تكفي لتلبية الحاجة، نافيا أن يكون المركز يعرف خصاصا في عدد الأسّرة وفي الفريق الطبي.
وأشار المندوب إلى أن مركز قلعة مكونة سيعلن افتتاحه خلال السنة المقبلة، مؤكدا أنه تم تخصص له غلاف مالي بلغ 400 مليون سنتيم سيمكن من استقبال حوالي 60 شخصا، وسينهي مشاكل ومعاناة المرضى، الذين ينتقلون إلى مراكز تصفية الدم بالأقاليم المجاورة.
وعن المغاربة المقيمين بالمهجر الذين يعانون من القصور الكلوي الذين يزورون المنطقة خلال العطلة الصيفية، دعا المندوب الجالية المقيمة بالمهجر إلى ضرورة إرسال طلب إلى المندوبية قبل قدومهم إلى المغرب، من أجل توفير مكان لهم للتصفية في أحد المراكز الخاصة بتصفية الدم.
محمد ايت حساين -هسبريس
المصدر : https://tinghir.info/?p=25663