أعاد رئيس الحكومة المكلف، عبد الإله بنكيران، ساعة المغرب إلى دورتها الأولى، عندما «اتهم» أخنوش بأنه الساهر الأول على “البلوكاج الحكومي”.. والحال أن بنكيران هو المكلف، دستوريا، بتشكيل الحكومة والمسؤول الأول عن إنجاح المفاوضات مع قيادات الأحزاب التي يرغب في إشراكها (أو ترغب هي في المشاركة) لتشكيل هذه الحكومة. فقد مرت الآن ثلاثة أشهر على تكليفه من طرف الملك، ومنذ ذلك الوقت أجرى رئيس الحكومة المكلف مفاوضات لم تكلل بالنجاح، وأثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه «مفاوض فاشل» واستعلائي يفاوض الآخرين على ارتفاع لا يليق بمن يحتاج إلى الآخرين لإتمام البناء الحكومي. لقد نسي رئيس الحكومة المكلف، في غمرة فوز حزبه بأكبر عدد من الكراسي البرلمانية مقارنة بالأحزاب التي شاركت في «تشريعية السابع من أكتوبر»، التي تميزت بارتفاع مهول في حجم المقاطعين، أنه محكوم بآلية دستورية تفرض عليه الحرص على أن يكون رجل دولة أولا، وأن يخرج من عباءة “الأمين العام” ليتعامل مع الفرقاء السياسيين بمبدأ الإقناع والاستماع، والقبول بالندية التي تعرض على المشتغل في الحقل السياسي أن يقدم تنازلات إذا اقتضت الحال ذلك، وأن يفاوض بقوة وليونة من أجل الصالح العام.
فما الذي فعله بنكيران؟ هل استطاع أن يكون رجل دولة بالمفهوم الدقيق للكلمة؟ وهل استطاع أن يكون مفاوضا جيدا مع «عزيز أخنوش»، الرجل الذي حمل معه اشتراطات كبرى للمشاركة في الحكومة؟ في الوثيقة الدستورية، لرئيس الحكومة المكلف صلاحياتها واضحة لتشكيل حكومته على أساس واضح، وبناء على أرضية مشتركة يتحقق عبرها الانسجام الحكومي. أما الاختباء وراء «التحكم» لتبرير البلوكاج الحكومي لهو دليل، ليس على أن الآخرين «شياطين»، بل على الفشل، وعلى ضعف الإقناع، وعلى هشاشة العرض. فهل كان بنكيران المنتشي بمقاعده البرلمانية أن تكون جميع الأحزاب على مقاس «قب جلبابه»، أو أن تكون طوع اليد واللسان مثل حزب نبيل بنعبد الله الذي بلع لسانه والتزم الصمت، حتى لا يكون مآله مآل الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط الذي رماه لسانه خارج كل احتمال للمشاركة في حكومة ستطاردها لا محالة لعنة “أم بنكيران” ولعنة التاريخ؟ إن «البكاء» واستبكاء العاطفين على حكومة الإسلاميين وعرض “الذات المشنوقة” ينتج أعطابا ويخلف قراءات تفيد أن بنكيران، رئيس مكلف “فاشل” بكل المقاييس، وأنه غير مهتم بالتأويل الديمقراطي لمهمته في تشكيل الحكومة، وأن مفهوم التابع والمتبوع، والحاكم والمحكوم، والصغير والكبير، والرابح والخاسر، مفهوم لا يستقيم مع ما يقتضيه تشكيل الحكومة من اتزان، وعدم استبداد بالرأي، رغم التنبيه المباشر للملك بضرورة الحرص على إخراج حكومة متماسكة وقوية وقائمة على الكفاءة، أولا وأخيرا.. نعم هذا ما حصل وما زال يحصل، فقط لأن رئيس الحكومة وحزبه وجزء كبير من قياداته يعتبر أن نتائج صناديق الاقتراع أقوى بكثير من ضرورة احترام مقتضيات متن دستوري جامع لقوانين تنظيمية هي بمثابة أعمدة أساسية في البنيان و الهندسة الدستورية.
إن المهمة المسند إلى بنكيران تتطلب رجل دولة حقيقي عارف ومدرك لما تريده البلاد وما يبغيه الوطن وقواه الحية. ومطلوب من رجل الدولة هذا إذا وجد في أعلى هرم المسؤولية الحكومية وقدر عليه أن يكون قائدا لفريق، الإنصات العميق وواجب التحفظ والعمل كثيرا في صمت، لتهييء البلاد حتى تكون قادرة ومؤهلة للتناغم مع الأوراش المفتوحة.. أما التعامل مع الآخرين بمنطق استعلائي، واعتبارهم مثل ورقة ثانوية في محفظته.. فذاك أمر سيفتح الحقل السياسي على مخاطر غير محسوبة سيكتوي بها الجميع..
إن ما يقع اليوم على مستوى تشكيل الحكومة أمر مخيف إذا لم يكن مريبا. غير الارتياب ليس في نوايا أخنوش ولشكر والعنصر وساجد، بل أساسا في الكفاءة السياسية والتفاوضية لبنكيران.. لقد صرخ رئيس الحكومة المكلف، غاضبا ومتبرما، بأن المفاوضات حول تشكيل الحكومة «لا يمكن أن تستمر»، والحال أن الأمر يتعلق بتشكيل حكومة بلاد لها مؤسسات وشعب وأحزاب وجمعيات، ولا يتعلق الأمر بتوزيع بقرة، وهو ما ينذر بأننا على مرمى حجر من أزمة سياسية لا نعرف إلى أين ستقودنا مضاعفاتها. إن المسؤولية التاريخية تفرض على بنكيران أن لا يستعمل لغة «المصلوب»، والحال أن المشاورات الأولى التي قام بها منحته أغلبية قوية، كان بإمكانه الإعلان عنها، والانتقال للتداول حول التصورات والبرامج والهيكلة، لكنه، وبكل أسف، فضل اعتماد الغموض وتغليب أسلوب التراشق الإعلامي والحملات الدعائية و«التقلاز من تحت الجلابة». وهذا معناه أن رئيس الحكومة المكلف اختار أسلوب المقايضة للتفاوض، لا أقل ولا أكثر، من أجل تشكيل حكومته، علما بأن واقع الحال يفرض عليه أن يستحضر الإكراه السياسي الذي يتعين عليه بموجبه التفاوض لإخراج تحالف قوي ومتماسك. إن منطق «أنا الحصان، والآخرون مجرد عربة مجرورة» الذي يريد أن يفرضه بنكيران على الدولة، وعلى الأحزاب، يقدم الدليل على أنه يستعمل مقدمات فاسدة ديمقراطيا من أجل الظهور بمظهر «رجل الدولة القوي» الذي بوسعه أن يراقص الدولة على الإيقاع نفسه، وبكمية الأوكسجين نفسها. وعلى هذا الأساس، ستعين عليه أن يتحمل الفشل بمسؤولية كبيرة تحفظ ماء وجهه إن كان مازال مهتما بوجهه. ذلك أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو كالتالي: لماذا استعمل بنكيران منطق تحديد الأحزاب التابعة، ولم يستعمل منطق تحديد الحلفاء بالمعنى الدقيق للكلمة؟ وهل منطق «انتهى الكلام» بعيد عن منطق الابتزاز؟ وعلى من يقع هذا الابتزاز؟ هل على أخنوش؟ أم على الأحزاب الأربعة (الأحرار، الاتحاد الاشتراكي، الدستوري، الحركة)؟ أم على الدولة في شخص رئيسها؟ لقد عبر رئيس الحكومة المكلف، صراحة، أنه لا يريد أن يكون «الاتحاد الاشتراكي» و«الاتحاد الدستوري» جزءا من تشكيلته الحكومية. أما أخنوش ومعه لعنصر فقد أعربا عن استعدادهما لمواصلة المفاوضات، شريطة إشراكهما فيها مع «الاتحاد الاشتراكي» و«الاتحاد الدستوري»، وذلك من أجل “التوصل إلى تشكيل غالبية حكومية منسجمة وقوية”، فهل بمنطق «انتهى الكلام» يمكنه أن يقرب وجهات النظر بينه وبين حلفائه المفترضين؟
إن فكرة بنكيران عن الدولة هي الفكرة التي يؤمن بها جزء من الأصولويين الذين يعتبرون أن ولي الأمر يحكم، وأن ما على الآخرين إلا الرضوخ والإذعان!!
(تفاصيل أوفر حول هذا الموضوع تقرؤونها في العدد الحالي من أسبوعية “الوطن الآن” المتواجد في جميع الأكشاك)
المصدر : https://tinghir.info/?p=24895