يكتسي الحديثُ عن مظاهِر النرجسية وتضخّم الأنا في مُختلف وسَائل التواصل الاجتماعي أهمية كبيرة، نظرا لراهنيته أولا، ثم لذيوعه بشكل مُذهل عبر بقاع العالم كله. ثم إن الناس في احتكاكهم اليومي بهذه الوسائل المتناسلة وخاصة الفايس بوك، يغفلون عن جوانب خطيرة يحسبونها جهلا أنها انفتاح وحرية شخصية، لكنها في عمق التحليل النفسي تبين امتلاك الشخص لعلل مرضية قاتلة. قد تزج به- بلاوعي- في مقبرة التعالي الاجتماعي والاحساس بالتسامي والعُلو السّرابي.
تعني النرجسية في أبسط تعريف لها حبّ الذّات والتميز بالغرور والشعور بالأهمية ومحاولة الكسب ولو على حساب الآخرين، وهي كلمة ذات أصول يونانية تعُود الى قصة شخص يدعى “نارْسِيسْ” الذي كان آية في الجمال وقد عشق نفسه عندما رأى وجهه في الماء[1]. فالأمر، إذن، لا يخرج عن كونه اضطرابا في الشخصية وخلخلة لتوازنها الطبعي الذي فطر عليه الانسان من ان الحب السّوي يجب أن لا يمجّد ذات الشخص ويشغف بها حبّا.
من خلال هذا التعريف نكتشف مقدار اعتلال العديد من الناس عبر المواقع الالكترونية والصفحات الاجتماعية، فاذا كانت صفحة الماء هي محل انعكاس صورة “نارْسيسْ” فإن واجهات الصّفحات الاجتماعية وخاصة الفايس بوك هي محل انعكاس صدى مرض الأشخاص في العصر الحديث. فبمجرد فتح بوابة حسابك تصفعك الملايين من الصور المفبركة الموسومة بخصائص الجمال والرقة والأناقة، وهو أمر فيه ما فيه من توهيم الذات وخداعه والرغبة في إظهار المظهر الايجابي الجذاب، حتى ولو كانت الحقيقة عكس ذلك تماما. إن الميل النفساني الداخلي الذي يمتلكه الشخص عند الاقبال على تغيير صورته الغير المرغوبة (ولا نقول القبيحة) في بروفايله الشخصي أو اقتناص تعليقات الآخرين وتعبيراتهم واسنادها إلى نفسه، يكشف عن اعتلال في الشخصية وأمراض خطيرة تكون أعراضها على مستوى الواقع الحقيقي متجلية في سوء التواصل الاجتماعي والانطواء والفشل العاطفي والاحساس بالدونية.
صحيح أن النفس البشرية جبلةً تطمح إلى العلو والقيم الفُضلى، لكن ليس عن طريق الخداع والنفاق وتوهيم الآخر بضد الحقيقة الواقعة. يكفي الاستدلال هنا بنواقص أخرى نشاهدها بشكل هستيري في موقع الفايس البوك تحديدا، وهي الوسيلة الأكثر شعبية، وهي تمجيد الذات عبر نصب فخاخ التعاطف وكسب المؤيدين والمساندين حتى ولو كانوا مجهُولي الهُوية تواصليا، وذلك عن طريق التعبير عن المرض أو مشكلة أو ضائقة أو نجاح أو فشل أو هزة عاطفية أو غيرها من التعليقات البسيطة التي يضعها الشخص عبر حائط حسابه عن سبق اصرار وترصد، ثم ينتظر رد فعل الاخرين عبر التعليق والاعجاب وفي أحسن الأحوال المشاركة، إن مثل هذه التصرفات العديدة التي يقوم بها الفرد تبرهن -علميا- على مقدار العوز العاطفي الوجداني التي يتخبط فيه صاحبه(ها)، بل ان قدراته التركيزية في العمل والدراسة تقل مع استعمال “الفايس بوك” أطول مدة، وهذا معطى أكده الباحث “ارين كاربنسكي” من القسم الثقافي في جامعة اوهايو حيث قال: “كلما تصفح الطالب الجامعي هذا الموقع كلما تدنت علاماته في الامتحانات”.[2]
“الفايس بوك” و”التويتر” وغيرهما أدوات للتواصل وتنمية المكتسبات المحصّلة وتثمينها، وليس فضاء لممارسة الشذوذ النفسي وتقمص الأدوار التي فشلت فيها الذات اجتماعيا أو في الواقع المعيش. جميل جدا أن نتواصل ونتبادل المعلومات والخبرات – وهو هدف “مارك زوكربيرغ” صانع الفايس بوك في البداية، لكن الأدهى هو أن نجعله وسيلة لنفاق الذات أولا ثم الآخرين والمجتمع ثانيا، فالشخص الذي يمحص صوره وينقحها يوميا لينتقي الأجمل منها فيضعها على حائطه مُباهيا، أو يصور نفسه مع وجبة أكل دسمة أو مع مغنية جميلة مثلا، يدل على مُركّب نقص، بل إنه منطقيا، وبالاستدلال بالخلف، يؤكد أنه ذميم الخلقة وفقير دائم الجشع وفاشل في علاقاته مع الجنس الآخر. وانما يحاول لا شعوريا استدراك كل ذلك عن طريق التماهي مع الصورة الغيرية الجميلة التي تمنحه جُرعة من الاعتزاز بالذات ومُخاطبة الآخر الافتراضي على أنه هو المثالي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
على الإنسان المُعاصر في هذه الدول المهترئة، أن ينتبه الى ريح الانفصام الذي يوسِّع يومًا بعد يوم نفسيته ويقحمها في مهاوي التزمت التواصلي والديني الدّاعشي، وغيرها من الأعراض التي تنتج وستنتج في السنين القادمة شبح إنسان الكتروني يفقد دفئه الانساني الطبيعي في بني جلدته، ويتوهّمه في أجهزة الكترونية جامدة لا تحس به ولا تشعر، تجعله يعيش في عالم المثل الذي يبنيه تخيُّلا مع هواجسه، بينما العالم الحقيقي من حوله يتغير سنوات ضوئية نحو القتامة القاتلة.
(محمد بوطاهر- تنغير في: 8 يناير 2017)
…………………………
1- التعريف مأخوذ من الرابط الالكتروني: http://mawdoo3.com/%D9%85%D8%A7_ (زمن الدخول 6 يناير 2017 ،على الساعة: 21:45min)
2 – http://montada.echoroukonline.com/showthread.php?t=82768
المصدر : https://tinghir.info/?p=24761