بادئ ذي بدء، يتعين أن نركّز على أنه لا يمكن -إطلاقا- أن ندّعي أننا متخصصون في التاريخ، ملمّون بالحيثيات والجزئيات التاريخية، كما لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بممارسة الأستاذية ونقدّم دروسا لغيرنا في مجالات يفترض أن تكون مجال تخصّصه، وبالمقابل، نجد أنفسنا أحيانا كثيرة تائهين أمام تصريحات غريبة لا تخرج عن دائرة إطلاق الكلام على عواهنه، خاصة إذا كانت تغالط الذات قبل الغير وتسعى إلى تزييف الحقائق والوقائع بنية تمويه العموم.
سياق هذا الكلام، ما صدر عن السيد عبد الله بوصوف، الأمين العام لمجلس الجالية المغربية، والذي قدّم على أساس أنه مؤرخ حاصل على شهادة الدكتورة في التاريخ، عندما ادّعى أن “المغرب استقبل البربر والأفارقة منذ أربعة عشر قرنا”. ادعاء لا نعرف من أين جاء به المدّعي، والسياق الذي جاء فيه، ثم الغاية من مثل هذا الكلام الذي يعتبر “طرحا” جديدا لتاريخ المغرب.
سنبدأ بوصف “البربر” الذي وظفه الأستاذ بوصوف، فرغم أن التسمية ظلت ولقرون تستعمل من جانب الباحثين والدارسين إلى جانب المؤرخين، فإن هذه اللفظة أصبحت في الألفية الثالثة متجاوزة وبكل المقاييس، ذلك أن هذا الوصف قدحي تنفيري بما لا يدع الشك، ويتعين على الانسان أن يواكب ما تشهده الساحة من تطورات واستدراكات، فالأمازيغ لم يعرّفوا أنفسهم بهذا الإسم قطّ، وإنما وظفه الغزاة باختلاف انتماءاتهم لغايات غير بريئة، ومن واجب المؤرخ المتنور التنبيه إلى هذه المنزلقات وتجاوز هذا الاجحاف الذي تبقى دوافعه معروفة، ولم يعد السياق التاريخي الذي تمّ فيه قائما.
من جهة، سقط مؤرخنا في هفوة أخرى وهو يتحدث عن استقبال الأفارقة، صحيح أن لفظة الأفارقة لا تزال توظف بشكل خاطىء وغير واع لدى عامّة الناس، فنحن المغاربة أيضا أفارقة وكذلك سنظل، ومن غير المقبول –من جانب رجالات التاريخ والجغرافيا خصوصا- وضع حدود وهمية بيننا نحن المغاربة وأفريقيا، وهنا، يجدر توظيف “أفارقة جنوب الصحراء” بدلا عن “أفارقة” التي تنطبق علينا كذلك نحن المغاربيين، وإلا سيفهم أن هناك سعي -واع أو غير واع- إلى تكريس تبعية شمال أفريقيا للشرق الأوسط وفرض طرح “العروبة والإسلام” ضدا على كل الحقائق الأخرى.
لسنا ندري هل فعلا مؤرخنا يجهل أن الممالك الأمازيغية كانت قد عمّرت شمال إفريقيا –وضمنه المغرب موضوع التصريح- ولحقب تاريخية طويلة، كل ذلك قرونا قبل التوسع العربي-الإسلامي، دول قائمة بذاتها وفق تحديد المؤرخين، حيث كانت لها أجهزة إدارية وعسكرية خاصة، وسيادة تتمثل في ممارستها للسلطة على القبائل الخاضعة لها، كما يسجل التاريخ سعيها إلى حماية مناطق نفوذها ولأجل ذلك خاضت حروبا ضد القوى الغازية المتنوعة لقرون عديدة تعج المراجع التاريخية بتفاصيلها.
إن محاولة ربط ظهور الدولة بالمغرب بقيام الدولة الادريسية مغالطة كبيرة تدخل في إطار سياسة البتر التي حاولت أطراف كثيرة في مغرب ما بعد الاستقلال إعمالها ولا تزال، فتاريخنا يمتد لأكثر من ثلاثة وثلاثين قرنا، وعلى من يجادل أو يشك أن يطّلع على ما تتضمنه المصادر والمراجع التاريخية التي ألفت شرقا وغربا حول الأمازيغ، ووزنهم ومساهمتهم في الحضارة المتوسطية، وعدم الانقياد إلى الكتب الصفراء التي خطّت في المؤسسات الدينية وفق منظور سلفي، والتي طالما اهتمت بالتهدئة بدل التناول الموضوعي للوقائع.
يجب أن ندرك نحن المغاربة أن عبارة “الفتح الاسلامي” لا تختلف بتاتا عن “الغزو العربي”، فشمال أفريقيا تعرض لحملات غزو عربية تحت غطاء نشر الدين الاسلامي، حملات وظفت فيها أبشع الجرائم والتجاوزات، فالغزاة تفننوا في البطش والتنكيل، وعاثوا في الأرض تقتيلا وترهيبا واستعبادا لأهلها، وتم سبي النساء والأطفال بالآلاف وبيعوا في أسواق النخاسة دمشق، ولم تسلم خيرات البلاد من عبث الوافدين، فتمّ استنزافها، فكم من محاصيل أحرقت، وكم من أنعام بقرت إشباعا لتعطش مرضي للدماء ضدا على الفطرة السليمة وربانية الرسالة السماوية.
لقد كانت الجيوش العربية –الأموية والعباسية خصوصا- مثالا حقّا للبربرية والتوحش، وقد يكون مؤرخنا قد أصاب عندما قال أننا استقبلنا البربر في شمال أفريقيا منذ أربعة عشر قرنا، نطق بحقيقة لم يكن يدرك أنها كذلك، يجب أن نتملّك الشجاعة لنقرّ بما تخفيه صفحات تاريخنا، ونكف عن درّ الرماد في الأعين، وبالقدر ذاته يجب أن نتملك الحكمة الكافية لفهم سياق هذه الأحداث والتعامل معها إيجابيا بشكل يرسخ فينا قيم التعايش والتسامح ونبذ كل أشكال التطرف والعنف بكل أنواعه وتمظهراته.
ختاما، إذا كان السيد عبد الله بوصوف يقصد ما فهمنا من قوله، فإنه أصيب بالعمى الأيديولوجي الذي نال من كثير من الوجوه المغربية وفي شتى المجالات العلمية، وهو ما لا يليق بأستاذ مثله، أما إذا كان ما قاله مجرد زلة لسان أو كلاما أخرج عن سياقه، فإنه يتعين على الأستاذ، توضيح كلامه وتصويبه إن اقتضى الأمر، فالرجوع إلى جادة الصواب فضيلة، والاعتذار ثقافة راقية لا يفهمها إلا العقلاء.
لقد حرك الأستاذ بوصوف المياه الراكدة، ويتعين على رجالات التاريخ ببلادنا إنصاف الذاكرة التاريخية لهذا الوطن، ومصارحة المغاربة بحقيقية تاريخهم بعيدا عن التناول الأيديولوجي الضيّق للوقائع والأحداث، لقد كان تصحيح التاريخ وإعادة كتابته بأقلام نزيهة أحد أكبر المطالب المرفوعة من جانب أحرار الوطن، وكل تأخير في ذلك، سينتج لا محالة جيلا آخر من مغاربة يعانون الفصام الهوياتي والتيه الحضاري.
المصدر : https://tinghir.info/?p=24496