خارج كل السياقات والمسارات والمطالبات والاحتجاجات،طفت مؤخرا على السطح السياسي والاجتماعي ببلادنا معضلة اسمها “التعاقد”،يعني قبول المشغلين الجدد في الوظيفة العمومية بموجب عقود لمدة عامين قابلة للتجديد في أبعد أفق هو 8 سنوات؟؟.ولقد أثار هذا الموضوع جدلا كبيرا وحادا بين مختلف الأطراف وفي مختلف الأوساط،خاصة بين الوزارة الوصية وزارة التربية الوطنية صاحبة المشروع والمدافعة عنه،وبين الطلبة موضوع التعاقد والمتضررين منه،وبين الوسطاء بينهم من نقابات مهنية وجمعيات حقوقية وأحزاب سياسية وغيرها. وكمتتبع لهذه المعركة الحامية الوطيس وحواراتها البزنطية الملتهبة،أرى مع العديدين أن وراء الأكمة غابة بل غابات وأدغال يعلم الله مدى خطورتها؟؟.
غابة الوزارات الثلاث للتربية الوطنية والوظيفة العمومية و وزارة المالية اللواتي نزلن بهذا المشروع المعضلة هكذا فجأة دون حوار وطني ولا مصادقة تشريعية،وأعلن أنه مشروع لا تراجع فيه وأن الوظيفة العمومية ستقطع حتما مع الأسلوب التقليدي للتوظيف والعهد القديم له،ولا مستقبل للتشغيل في البلاد أي تشغيل بعد اليوم إلا التعاقد والتعاقد حتى التقاعد لمن أسعفته خوارقه لبلوغه،وكأننا قضينا على كل أشكال التشغيل بالوساطة والصداقة والحسابات السياسوية مثلا في الجماعات المحلية والدواوين الوزارية والمقاولات العائلية؟؟،ولا أدري في برنامج أي حزب كان هذا المطلب وبهذا الاستعجال والارتجال،فأصبح اليوم ينادي به بملإ فيه أن يا أبناء الشعب اختاروا لكم في أزمة التشغيل بين التعاقد المؤقت أو التقاعد الدائم في أركان الأحياء وزوايا الدروب،اختاروا لكم بين دمقرطة الحد الأدنى للأجور”السميك”في عهد”زيرو حكومة”أوبين صدقة رئيسها”بنكيران”على أرامله ودراويشه؟؟.
غابة الطلبة المتضررين والأساتذة المتدربين والأطباء والمهندسين المتخرجين،والنقابات الرافضة للمشروع والمناضلة ضده إعلاميا على الأقل،هم من الذين يرون في التعاقد إجهاز تعسفي على كل الحقوق الدستورية للمواطنين، من حق الكرامة والتشغيل،وحق الاستقرار النفسي والمهني والاجتماعي،وحق الأقدمية والترقي في مسارات الوظيفة من أدناها إلى أعلاها،وحق الانتقال حسب الضرورة والمتاح،والعدل والإنصاف في تحديد الأجور ونيل الأوسمة،وغير ذلك من التلاعبات المغلفة والتي تجعل من هذا المشروع المتهافت ومن مستقبل الأجيال والأسر والبلاد ككل في كف عفريت؟؟.كيف نفرض التعاقد على 11 ألف طالب وطالبة غير مكونين في أخطر ميدان وهو الميدان التربوي،في حين نرفض توظيف 10 ألاف أستاذ مكونين لا زالوا حتى الآن يملوون الشوارع احتجاجا من أجل التوظيف؟؟،هل إلى هذا الحد هانت علينا ناشئتنا واستطعنا تفويت تربيتها وتكوين عقولها إلى من سيتعلمون الحلاقة في رؤوسها والسياقة في فصولها والاسترزاق من مأساة ضحاياها ؟؟.
كيف ندعي التوظيف بالتعاقد والعملية كلها مجرد سرقة جل أطر القطاع الخاص المدربين لنستر بهم عورة القطاع العام،وجل هؤلاء الناجحين في مسلسل المباريات التعاقدية منهم قد قبلوا بذلك فقط ليعوضوا التعاقد في القطاع الخاص بالتعاقد في القطاع العام،والانتقال من البئر القديم في الخصوصي إلى البئر الجديد في العمومي؟؟،من سيحدد كفاءة وأهلية الأطر المتعاقدة بداية ومستقبلا وبأية مصداقية وموضوعية بلا محاباة ولا تصفية حسابات؟،من سيتعاقد مع المتعاقدين أنفسهم أم هم قوم يتعاقدون فقط ولا يتعاقد معهم؟؟،هل التعاقد سينقد فعلا تشغيل المئات من الطلبة الموجزين وتمدرس الآلاف من التلاميذ الذين بقوا إلى حد الآن بدون أساتذة وقد أوشكت السنة الدراسية على الانتصاف،أم على العكس سيعمل على تضييع كل ذلك بما أنه فقط تعيين مجرد متعاقدين مياومين لا ثقة لهم في شيء ولا كبد لهم على شيء ولا علاقة لهم لا بالمهنة ولا بالمادة ولا بالمؤسسة ولا بالتلاميذ،مما يعني بالواضح أن المسألة كلها مسألة اقتصادية ستجمع بموجبه الحكومة المقبلة بتقشفها كعادتها بعض”ملايير الدراهم”على حساب أبناء الشعب العاملين والمتمدرسين،ولا علاقة له كما يدعون بالجودة أية جودة لا من قريب ولا من بعيد،فضجيج الأرقام يتحدث عن دفعة هذه السنة من المتعاقدين(11 ألف متعاقد)،يتحدث عن اقتصاد 660 مليون درهم كتخفيض من كتلة الأجور التي أوصى بها صندوق النقد الدولي لاسترجاع ديونه و فوائدها؟؟.
إن الدغل الحقيقي والمتوحش في الموضوع،هو أن حسابه الخفي والمعلن فارغ وعملته فاسدة، يدعي الإصلاح ولا يأتيه إلا من باب الإفساد وبالمتمرسين فيه، ولا تأتيه من باب الحاجيات والإجماع والأولويات كباب التعلمات كمستوى وبيداغوجيا وباب التلميذ ككيان ومردودية وباب الأستاذ كنفسية وظروف عمل وباب الشعب كطموحات وانتظارات وباب الوطن كتحديات واستراتيجيات…،بل تأتي من أبواب الفتنة الموصدة والتي يأبى إلا تكسيرها كأبواب المجانية والتعاقد والتقاعد…؟؟،فلا زالت الحكومة المتقشفة في غيها وغيابها تعتقد أن القطاع غير منتج ولا يستحق كل الميزانية الضخمة التي تصرف عليه،فليجربوا كما يقال ميزانية الجهل والتجهيل وما ستنتجه من “الدواعش”و”الفواحش” لا تبقي ولا تذر؟؟،ولا زالت الوزارة المسكينة تعتقد أن الأستاذ هو المسؤول عن فشل سياستها التربوية ومنظومتها التعليمية،ولابد أن تشدد له كل الضربات والحسابات والاهانات،في حين أن ذلك لن يزيده إلا بعدا عن الميدان رغم تواجده فيه،وكرها للمجال رغم عمله الاضطراري فيه،ما دام لا يتلقى فيه أي تكوين مناسب ولا تكوين مستمر ولا إشراف بيداغوجي علمي وفعلي قبل كل شيء،بل أحيانا ولا أي تحفيز ولا حتى اعتبار آدمي،بل على العكس،قد وصل اليوم إلى درجة”الأستاذ المياوم”،لا يأمن على نفسه من أي شيء،في كل سنة وفي كل شهر وكل يوم،”قيلة يخدم قيلة يتطرد”أو على الأقل ينقل تنقلا تعسفيا في مزرعة الوزارة القاحلة تنقلا يضر بكل مصالحه واعتباراته،أليس الأولى بالمحاسبة هم أولائك المسؤولون المخططون والمديرون المقررون والمنفذون الذين أوصلونا إلى هذا الذي لا نحسد عليه،أليس لهم في الانسحاب الجماعي بالتقاعد النسبي ل 15 ألف أستاذ الذين غادروا الميدان هذه السنة غير متأسفين ألف عبرة وعبرة وألف سؤال وسؤال؟؟،
ماذا سأقول لكم،كنا ننتظر ثورة حقيقية في منظومة التشغيل والأجور تضمن فعلا تنمية البلاد،ويتضامن بموجبها كل أبناء الوطن أغنيائه وشيوخه وشبابه وفقرائه على تقاسم فائض الثروات وخصاصها،وكنا ننتظر عشرينيات فبرايرية سرمدية ملتهبة تقف سدا منيعا ضد كل نقارات الخشب ومحاولاتهم البيسة واليائسة لفتح هذا الثغر التعاقدي والتقاعدي وضررهما البالغ في مركب وسفينة الوطن أكثر من نفعهما العابر؟؟، وكنا ننتظر ثورة عالمية تنطلق من عندنا تبشر بعهد ما بعد العملة التي تبدو عملة صعبة وهي زائفة،حيث لا ينال الفرد بموجب هذه الثورة من عمله مهما كان، إلا ما يسد به حاجاته وكرامته الآدمية التي يمكن لمجرد بطاقة ائتمانية وتمويلية أن تسدها،وبهذا نضمن الحاجات الأساسية للجميع وعلى قدم المساواة،ليبقى بعض التفاوت الممكن حسب الجدة والاجتهاد؟؟،لكن”الله يديرها للدنيا اللي تعقدات وعقدات الأمور على كلشي”،حتى تركت الإنسان يقبل ويرضى بما يضره قبل ما يفيده،ليصبح في هذا الوضع المهين أضعف حلقة يكسر قيدها وتفكك حلقاتها،لتقوى بها حلقات غيرها كإتاوات وضرائب الدولة و أقساط وفوائد الأبناك التي لا نستطيع مواجهتها؟؟.
ماذا سأقول لكم والحالة هذه، سنتعاقد معكم في كل شيء وبأي شيء،بل يمكن أن نتطوع لكم في كل شيء وبلا أي شيء وقد عهدنا ذلك كل حياتنا المدنية التطوعية،فقط لو تلتزمون معنا،لو تلتزمون معنا،على الأقل فيما تقطعونه على أنفسكم؟؟.فقد وضعتم الدستور،فهل تلتزمون به وتطبقونه كقانون أسمى على الجميع؟؟،و وضعتم قوانين الحريات العامة،فهل هي سارية المفعول ننتفع بها وتحرر حياة الجميع؟؟،وضعتم ميثاق الوظيفة العمومية،وها أنتم بمفردكم تغيرونه كما تشاؤون ولمصلحة من،ربما العفاريت والتماسيح وحدهم يعلمون؟؟،أغركم أن هناك الآلاف المؤلفة من الشباب المعطل لا ترون فيهم غير مشروع ل”رباعون” في مزارعكم أو سواقون”لسياراتكم رباعية الدفع وبأجور قد لا تصل حتى”سميك”بل ولا تتعدى بعض مصروف الجيب؟؟،أو تقولون مهما كان فهم مجرد فتيات يعملن بمجرد استضافة زملائهن لهن ولو على فنجان قهوة أو جولة في الشاطئ على مثن سيارة،أو يقعدن في بيوتهن على”التسياق والتخمال وب”بلاش”؟؟،أو فتيان سيكتفون بعملهم وأجرهم مهما كان زهيدا،بدل انتظار آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأصدقائهم أعطوهم ذات مرة أو منعوهم؟؟،
لماذا أبناؤنا ليس من حظهم أن يحظوا بمثل التعاقد مع المستثمرين والشركات الأجنبية التي نفوض لها أهم التدابير الوطنية في الطاقة والصناعة والبناء والفلاحة والملاحة والسياحة والرياضة..،بل في تسيير المدن حتى في النظافة وخدمات الماء والكهرباء والهاتف..،وبكل الحقوق والامتيازات التي لا يحلم بمثلها أبناء الوطن؟؟، فماذا سأقول لكم والحالة هذه،سنتعاقد معكم في كل شيء وبأي شيء،بل يمكن أن نتطوع لكم في كل شيء وبلا أي شيء،فقط لو تلتزمون معنا،،فهناك تجارب مريرة…هناك تجارب مريرة،تجربة التعاقد مع القطاع الخاص،هل أثمرت غير هذا الذي نراه اليوم من الهروب الجماعي نحو القطاع العام،كيف ولماذا…حلل وناقش؟؟،وهناك تجربة عاملات النظافة وحراس الأمن الخاص (security) وتعاقدهم مع شركاتهم،هل أثمر هذا التعاقد غير هذه الدوامة والمتاهة التي دخلوا فيها من التشكي الدائم وعلى أعلى المستويات ولدى أعلى السلطات من أجور زهيدة لا تسمن ولا تغني من جوع(2000 درهم على الأكثر)،ومن الحرمان من التغطية الصحية والعطل والتقاعد؟،أو غير هذا الذي يشكو الناس منه في كل مؤسسة يوجدون فيها من سلوكات وتصرفات البعض المغلفة بالتسول المجاني والاسترشاء الذي لا يليق؟،أو غير هذا الذي نعيشه كل شهر في العديد من مؤسساتنا التربوية من الحملات التضامنية التي يقوم بها الأساتذة بجمع بعض التبرعات لهؤلاء وهؤلاء وهؤلاء،بدعوى… وبدعوى..وبدعوى،ليبقى السؤال عالقا،هل التوظيف بالتعاقد تحديث الوظيفة حقا أم مجرد إفلاسها؟؟ المهم هناك تجارب مريرة…هناك تجارب مريرة ولا يستحقها المغاربة…لا يستحقها المغاربة؟؟.
المصدر : https://tinghir.info/?p=24348