من المؤكد أن كل غيور على سمعة وطنه ومستقبل الأجيال القادمة، سيقف اليوم مستنكرا بحرقة هذا الكم الهائل من الظواهر المنفلتة والمشينة، متحسرا بمرارة على ما آلت إليه أوضاع مدارسنا من تراجع وترد، إثر ما أصبحت تعرفه من حرب ضروس وقذرة، تشنها عصابات منظمة على ناشئتنا من نساء ورجال الغد، حرب ضد العقول والقيم، يتأجج أوارها بوتيرة متسارعة وفي صمت رهيب أمام أنظار الجميع، يجسدها استفحال ظاهرة استهلاك المخدرات وترويجها، داخل المؤسسات التعليمية وفي محيطاتها السوسيو-اقتصادية. فالمتأمل في مشهدنا التعليمي، كثيرا ما يصاب بخيبة الأمل إزاء هذه الاختلالات العميقة.. انشغل المواطنون بمواجهة الغلاء الفاحش بحثا عن لقمة العيش، اسودت الدنيا في عيون الآباء والأمهات والمدرسين على حد سواء، وما عاد أحد قادرا على تفسير هذا الانزلاق الأخلاقي الخطير، الذي يجر البلاد إلى حافة الانهيار، وبات من الصعب على المدرسة وحدها أن تنوب عن الجميع في التربية والتقويم والتوعية…
إن انعدام الوعي الاجتماعي والثقافي، خاصة في صفوف تلامذتنا، جعلهم يفقدون كل خيط ناظم بين البيت والمدرسة، وأضاعوا بوصلة الطريق صوب ما يشدهم إلى عالم الفكر، ويمنحهم السلاح الأنسب لمقاومة كل إغراء مدمر، فأصبحوا ضدا عن إرادتهم هائمين على وجوههم دونما اتجاه، كأنهم على متن شاحنات بالية بلا أنوار ولافرامل، تقلهم بسرعة جنونية في مجاهل عالم مقفر ومظلم. والأخطر من ذلك، أن العديد من مؤسسات التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي، في الأحياء الشعبية كما في غيرها من الشوارع الراقية، تحولت ومحيطاتها إلى قلاع احتكرتها ثلة من منعدمي الضمير، وحولتها إلى أسواق سوداء لترويج سمومها بين المراهقات والمراهقين، مستغلة سذاجة بعضهم من جهة، وإهمال الأسرة لواجباتها وعجز المدرسة عن مجاراة سلوكاتهم من ناحية أخرى، فحولت بيسر شديد فئة منهم إلى أدوات طيعة بين أيديها، تسخرها متى وكيفما شاءت لتسويق سلعها مقابل جرعات يومية بالمجان…
لقد استطاع “بارونات” الاتجار في المخدرات عبر ربوع البلاد، سيما في المدن الكبرى، إسقاط آلاف الضحايا من التلاميذ إناثا وذكورا، في فخاخهم المنصوبة بدقة متناهية، استنادا إلى دهائهم وطرقهم الخبيثة، مستغلين القصور العقلي للمتعلمين واندفاعهم، لتحريض بعضهم على بعض، من خلال منافسات بغيضة تعتمد التباهي بالعضلات، عبر قياس قدرات التحمل والصمود لدى الفرد الواحد، في تناول أكبر قدر ممكن من مخدر بعينه أو مزيج من المخدرات في مشروبات إما غازية أو روحية، يستهلون معاملاتهم بالتساهل في الأداء، ثم ينتقلون إلى مرحلة انتقاء الوسطاء، الذين غالبا ما يكونون من بين الذين يعانون من وضعيات اجتماعية صعبة، خاصة أولئك المنحدرين من الأحياء الهامشية، أو المقيمين لسبب أو آخر مع أحد أقاربهم، ويعيشون في غياهب الحاجة والفقر وويلات التفكك الأسري… فبأساليب وقحة، وخطط مدروسة، تمكن مروجو المخدرات من بسط هيمنتهم وإحباط كل العمليات الرامية إلى التصدي لغزواتهم المكشوفة والدنيئة، فلا حملات التمشيط الأمنية، ولا الندوات التربوية والشرائط السينمائية، الهادفة إلى التوعية والتحسيس بمخاطر الإدمان على المخدرات وسبل الوقاية والعلاج منها، استطاعت أن تؤتي أكلها في مجابهة الظاهرة أو تضع حدا لشيوعها. انغرست وتجذرت العادة السيئة في الأذهان، غزت جراثيمها الخبيثة البيوت والمدارس والأحياء، وطوقت حبالها رقاب ناشئتنا من الجنسين ومن مختلف الأعمار… وأمام ما يلاقيه التلاميذ من تخويف وترهيب، فإنهم لا يجرؤون على كشف هويات المجرمين ومن يعمل تحت إمرتهم، بينما معظم الأسر المغربية غارقة في خضم مشاغل الحياة اليومية، وفاقدة لزمام المبادرة ورعاية الأبناء، الشيء الذي فسح المجال أمام جبروت الإدمان للتوسع وإحكام قبضته على العقول الفتية…
إن الوقوع اللاإرادي لناشئتنا بين براثن الإدمان، نتج عن عدة عوامل، ساهمت جميعها في خلق المناخ المناسب، والتربة الخصبة لاستنبات هذا النوع من الجنوح، الذي انعكست آثاره السلبية على الحياة العامة: هدر مدرسي، ارتفاع معدل العنف بما فيه العنف ضد الأصول، الإجرام بأشكاله المتنوعة، وتعدد أنواع السرقة… وباتت مسؤولية تنامي هذه الظواهر الخطيرة مشتركة بين مختلف مكونات المجتمع، بدءا بالأسرة التي فضلا عن إهمالها لواجب المراقبة في البيت، تخلصت أيضا من عناء تتبع السير الدراسي لأبنائها، وفي حالة ما إذا انكشف أمر أحدهم متلبسا، فإنها درءا للفضيحة تلجأ إلى التستر عنه، بدل البحث عن المسببات ومحاولة إيجاد الحلول الناجعة، مرورا بالمدرسة التي صار المدرس موزعا بين تحمل ثقل المسؤولية ومواجهة ما يجري حوله من لغط وشغب بسبب الاكتظاظ، وأمسى البعض يتملص مرغما من واجباته تاركا الحبل على الغارب، بغضه الطرف عن المتغيبين والمتعاطين للمخدرات، مع ما يعقب ذلك من سخاء في نقط المراقبة المستمرة، مقابل راحة البال وسلامة الجسد، فيما الإدارة غائبة بدورها، عاجزة عن مجاراة طيش بعض التلاميذ والاضطلاع بمسؤولياتها التربوية، أصابها الوهن والتراخي وانفلت الزمام على عدة مستويات: انعدام الجدية في مراقبة المرافق الحيوية المنعزلة عن المكاتب الإدارية، التغاضي عن استطلاع ما يجري في الحجرات الفارغة، المراحيض والمستودعات، الممرات والساحة خاصة أثناء فترات الاستراحة … فقدان الصرامة في ردع المخالفين لبنود القانون الداخلي، وعدم الحرص على مراقبة أوراق الفروض واستثمار نقطها، واستدعاء أولياء التلاميذ كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وتتبع المواظبة والسلوك عبر الآليات المعتمدة في النصوص التشريعية والمذكرات الرسمية المنظمة للحياة المدرسية… إضافة إلى الغياب شبه الدائم للأمن في جوار المؤسسات التعليمية، وانتفاء وجود أجهزة للزجر والاستباق من قبيل كاميرات المراقبة، مما شجع على تفاقم الأوضاع وزاد في تعقيد مأموريات الجميع، و قاد الأبناء والبنات معا إلى الارتماء في أحضان الرذيلة والانحراف، لتتفرق بهم السبل وينصرف العديد منهم عن الدراسة، في رحلة البحث المضني والمحفوف بالمخاطر، عن مصاريف المخدرات التي استوطنت قلوبهم واستعبدت عقولهم…
وإذ نثمن عاليا، ما أقدمت عليه إحدى دور الشباب بمدينة الدار البيضاء، باحتضانها في سرية تامة لقاءات ائتلاف التلاميذ الحديث العهد، الذي أخذ على عاتقه مسؤولية محاربة الآفة في أوساط التلاميذ بمجموعة من المؤسسات التعليمية، وتعهد بمضاعفة الجهود لابتكار آليات حديثة ومتطورة سعيا إلى رصد حركية مروجي المخدرات، وتكوين قاعدة معلومات عنهم تساعد السلطات في التدخل السريع متى سنحت الفرص، فإننا نأمل أن تتلو هذه الخطوة الشجاعة، خطوات أخرى ناجحة من لدن كل الغيورين والشرفاء، وأن يتواصل التنسيق بين وزارتي التربية الوطنية ووزارة الداخلية، عبر وضع مقاربة أمنية كفيلة بتشديد الطوق على كل من له علاقة مباشرة أو غيرها في اتساع رقعة هذا الجحيم، وفي الوقت ذاته نجدد الدعوة إلى جمعيات المجتمع المدني، إلى أمهات وآباء التلاميذ وكافة الأطر التربوية والإدارية كل في دائرته إلى توخي اليقظة وتحمل كافة المسؤوليات من أجل حماية ناشئتنا، وأكيد أن الشرطة المدرسية وفرق مكافحة المخدرات لهما من القدرات والكفاءة ما يؤهلهما للإيقاع ليس فقط بمروجي هذه السموم، بل حتى بكبار مزوديهم الرئيسيين الذين يؤمنون لهم وصول البضاعة المحرمة… فلنتحد جميعا ضد حرب المخدرات المعلنة على مدارسنا…
المصدر : https://tinghir.info/?p=24040