أعاد مشهد مقتل الشهيد محسن فكري في الذكرى الاربعين لوفاته، داخل شاحنة مخصصة لنقل النفايات، بمدينة الحسيمة ،وماترتب عنه من مسيرات واحتجاجات عمت ارجاء المغرب، للتنديد بهذا السلوك الارعن في تعامل السلطة مع مواطني البلد، طرح سؤال الدولة في علاقتها بالمجتمع. هل وصلت هذه العلاقة الى حدود الاستخفاف بالمواطن الى درجة طحنه أم ان هذا السلوك الاستبدادي يعد فقط مشهدا من مشاهد عنف الدولة، وصفحة من الصفحات التي تضاف لذاكرة الاستبداد التاريخية بهذا البلد.
صورة قاتمة تلك التي ترسمها صفحات التاريخ المغربي، عن أشكال من العنف “المؤسس” ،الذي مارسته الدولة وبنيتها الفوقية تجاه الرعية، من أجل ترهيبها وزرع الخوف فيها ،لصناعة هيبة سلطة “فردية”. فالكتابات التاريخية لازالت تحتفظ بصور ومشاهد “للعنف المؤسساتي المنظم“1 الذي اعتمدته الاسر المتعاقبة على حكم المغرب، لتقييد الرعية وتثبيت سلطتها كاستعمال العنف في استخلاص الجبايات والتعسف في استعمال السلطة واغتصاب الاموال بغيرحق 2.
فالمصادر التاريخية تنقل لنا صورا من عنف المخزن السعدي ابان فترة حكم المنصور الذهبي بانه”تمكن في البلاد وتحكم في العباد”3 و”كثير الجور”4 و”شديد التعسف على الرعية”5 “غير متوقف الدماء لايهاب الوقيعة في ذلك”6 بل ان ثمة نصوصا تقربنا من طريقة تعامل المخزن السعدي مع تظلمات الرعية، والتي وسمتها بعد م الاكتراث، فقد “اعتدى بعض عمال المنصور على امرأة من دكالة فأخذ لها مالا فقدمت المرأة لمراكش لتشكو حيف عامله فلما شكت اليه لم ينصفها ولم يكشف ظلامتها فخرجت لأولادها وصرحت بذلك الكلام فأصبح مثلا مأثورا ودالا:انصرفوا فاني كنت أظن رأس العين صافية والآن حيث وجدتها مكدرة ادركت لم تكدرت مصارفها”7.
وتنوع عنف الدولة في اشكاله، لكن أكثره ضراوة وقساوة ” الْحَرْكَةُ “8 التي شكلت رعبا مخيفا لقبائل المغرب ،المنتفضة ضد استبداد قياد المخزن، فهي ليست مجرد تأديب لقبائل سائبة9 بل هي فرصة مواتية للمخزن “لاستعراض قوته العسكرية امام السكان زاد من ترسيخ تخوفهم منه،خاصة وانه كان يقدم على ردم الآبار وقطع الاشجار وحفر الطريق وهدم القناطر،فكلما نزل قائد المحلة بمنطقة معينة الا وتم اطلاق العيارات النارية بكثافة تحية له مما يبث الرعب في النفوس10 ويكرس في الاذهان عظمة المخزن.
عديدة هي النصوص التاريخية التي تحمل في طياتها نماذج لعنف المخزن ،خلال حَرْكَته ، تجاه القبائل المتمردة حسَبه ،ومنها ما اورده المؤرخ ابو القاسم الزياني في كتابه “البستان الظريف” يقول”…وامر(السلطان اسماعيل1693) بالحركة للبربر (قبائل الاطلس المتوسط) بالمدافع والمهارز والمجانيق وآلة الحصار ورتب عليهم العساكر من كل وجه (….)وحل بهم البلاء وتمكن منهم القضاء (…)وقتلت رجالهم وسبيت نساؤهم وأولادهم وجزت مواشيهم وأغنامهم وخيلهم وسلاحهم واستمر فيهم القتل والنهب ثلاثة أيام والعساكر تلتقطهم من الشعاب والاودية”11. فإن كان هذا الحل المؤسس على العنف، فرضته ظروف تثبيت نفوذ الدولة العلوية الفتية ،كان ناجعا آنذاك ومكن المولى اسماعيل من قبض زمام الامر بيد من حديد، فان تبعاته وانعكاساته كانت وخيمة على مجمل أوضاع البلاد في العهود اللاحقة12.
ورغم محاولة المؤرخين الرسميين، صبغ هذه الممارسة العنيفة للسلطة للقضاء على هذه القبائل المنتفضة ضد استبدادها بالمشروعية الدينية ،من خلال اعتبارها بمثابة قضاء على الجاهلية -قضاء على الفتنة -تأديب الخارجين عن الطاعة13 فقد أرجع الفقيه العلامة ” محمد بن الحسن الحجوي” سبب تمرد القبائل على السلطان عبد الحفيظ ،الى ممارسة اعضاء المخزن والسلطان نفسه، بقوله “ثم ان السبب الاول في هذه الفتن على الحقيقة هو الظلم والجور الذي عم الحاضر والباد ولم يبق للحق ذكر في هذه البلاد واتفق عليه السلطان ووزراءه وعماله وجميع حاشيته وساموا الناس أنواع الاستبداد والاستعباد وأتوا من أنواع الظلم والتعدي والغصوبات مالم يعهد مثله من عهد مولاي اسماعيل …”14 وقد ضاعف الخصاص المالي المتفاقم (نتيجة تسديد الديون الاجنبية) من شدة المعاناة التي يئن تحت وزرها ومنذ مدة طويلة المجتمع المغرب،استغلال بشع للرعية وجشع القائمين على السلطة وقمع شرس للتمردات15 فالغرض الحقيقي من هذا العنف المنظم سواء في البادية او المدينة ،كان القصد من استعمال العنف او التلويح به من طرف الدولة هو فيما يبدو ترسيخ الخوف من المخزن و” السياسة” 16.
ومن أبشع مظاهر هذا العنف الدموي سياسة قطع الرؤوس التي عرف بها المخزن العلوي، يحكي احد الفرنسيين الذي زار مدينة فاس في عهد المولى عبد الحفيظ في مذكراته، يقول”دخلنا فاس من باب “الساكمة” في أعلى الباب توجد حذوة حصان ،وأسفلها علق رأسان مروعان لفحتهما الشمس الحارقة لتحذيرنا وتذكير الثوار بمصير كل مارق عن السلطان وانتقامه من أعدائه”17.كما تحمل الرسائل السلطانية اوامر للتمثيل بتلك الرؤوس المقطوعة ،حيث نجد في مضمون رسالة من السلطان محمد بن عبد الرحمان مؤرخة بسنة 1871م بعد أن حقق نصرا كبيرا على قبيلة الرحامنة القوية نواحي مراكش، تقول:” هذا ويصلكم ماقطع من رؤوس قتلاهم لتعلق بباب المدينة ويعتبر بها المعتبرون ويتذكر بها المتذكرون”18 .
شكلت هذه الصور من عنف الدولة مصدر قلق وتخوف للساكنة و مظهرلازم السكان في تعاملهم مع المخزن هوشدة الخوف منه ومما قد ينتج عن ممارساته تجاههم ويجد هذا التوجس تبريره في طغيان هاجس عدم الثقة لأن”المخزن لأمان فيه”19.
فقد تسبب هذا العنف المتنوع في اشكاله ومظاهره في صناعة الخوف بشكل يظهر تاريخ المغرب في نهاية المطاف وكأنه تاريخ الخوف، وهوخوف متعدد.الخوف من المخزن.من سلطان طاغية يقطع الرؤوس.الخوف من قائد جائر يزيد في الجبايات،ويسلب الممتلكات.خوف القبائل من حركات المخزن…20. لكن الاكيد ان صورالخوف لم تترسخ في مخيلات السكان فقط بل امتدت لتهم مواقف النخبة المخزنية نفسها من السلطان وفي هذا الصدد وقف “جون بريثويت” عند مظاهر الفزع التي كانت تمتلك كبار الخدام وهم ينتظرون في بهو البلاط خروج السلطان “وبدأ كل واحد يجري ليختفي بنفسه …وقد فروا من السلطان كأنهم يفرون من نمر أو أسد”21.
هذا التخوف من صاحب السلطة يترجمه ممثلوا السلطة بتخويف الرعية ،والتي لازمت سياسة المخزن فالعنف بالنسبة له أداة اخضاع، بل ان وقائع التاريخ السياسي (للمغرب) منذ العصر الوسيط تدل عل ان حكم الدول المتعاقبة قام على العنف المسلح… 22. ولم يكن يحجم عن العنف سوى العاجز من الحكام23.
و خلال الحقبة المعاصرة لم يكد المغرب يلملم ذاكرته من عنف المستعمر الخارجي، وخروج جيوشه التي طوعت القبائل للمخزن، حتى استفاق مغرب الاستقلال على عنف من نوع آخر ،عنف الوطنيين فيما بينهم ورفاق السلاح وما تبع ذلك من مآسي في زمن الخوف حيث ” كان الناس يعلقون في أعمدة مثل الشياه المسلوخة وتكوى لحومهم بالسياخ الحامية أو يضربون بجلود البقر المطلية بالملح حتى يبايعوا الحزب…”24 الى سنوات عنف الدولة تجاه المعارضة و”ما رافقها من صنوف الاستبداد والمكر والحقد في زمن كنا قطيعا طيعا يساق نحو المجازر والسراديب”25 والموسومة في الادبيات الرسمية ب”سنوات الجمر والرصاص” والتي شهدت خريفا استبداديا مع قمع انتفاضة 1958و1959بالحسيمة وغيرها…الى الزمن الراهن مع شهداء الحسيمة الخمسة ابان الحراك الفبرايري يوم20فبراير 2011 وغيرهم ليستمر الترهيب والعنف الحارق مع مقتل شهيد الحسيمة محسن فكري.
هذه المشاهد تختصر في عنوان واحد بعض تجليات الاستبداد والقهر الذي عرفه المغرب خلال تاريخه الحديث والمعاصر والراهن ،وهي غيض من فيض ،وكلها توضح المكانة المتدنية للرعية عند الحكام وأولي الامر وهي مكانة تعكس ذهنية الازدراء والاحتقار من طرف نخبة ،لم تكن ترى في الرعية الا رعاعا وعامة عمياء26.
فهل نتمكن بعد هذه المشاهد من اسقاط خوفنا المزمن من الآتي وارتعابنا من الغد المجهول؟!27.
1-فريد فوغالية،عرض كتاب”السلطة والعنف في الغرب الاسلامي”،دورية كان التاريخية،العدد الخامس عشر،مارس 2012،ص129.
2- لطفي بوشنتوف ،مقال”حول بعض تجاوزات المخزن العهد السعدي مثالا”،مجلة أمل ،عدد مزدوج 31-32،مطبعة النجاح الجديدة 2006،ص56.
3-مجهول،تاريخ الدولة السعدية الدرعية التاكمادرتية،نشر جورج كولان،الرباط،-معهد العلوم العليا المغربية،1934،ص68. نقلا عن مجلة أمل،نفس المرجع،ص64.
4-نفسه ، ص65. نقلا عن مجلة أمل،نفس المرجع،ص64.
5- العلوي (عبد السلام) ،درة السلوك وريحانة العلماء والملوك،مخطوط خ.م.،رقم 237ص214 نقلا عن مجلة امل ،نفس المرجع، ص64.
6- الوفراني (محمد الصغير)، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي،تصحيح هوداس ،الاصدار الثاني لطبعة انجي 1888ص158.نقلا عن مجلة أمل ،نفس المرجع، ص 64.
7-نفسه،مجلة أمل،نفس المرجع، ص64. تم تعديل كلمات وردت في متن الاستشهاد الاصل (عدى:اعتدى/شكت عليه:شكت اليه/مأثور ودال:مأثورا ودالا).
8-الْحَرْكَةُ: مصطلح مخزني ،يعني قيام السلطان بتنظيم حملة عسكرية وتنقله عبر البلاد لتفقد احوالها.
9- عبد الاحد السبتي،مقال “الدولة والعنف”،ضمن كتاب التاريخ والذاكرة أوراش من تاريخ المغرب،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء ،الطبعة الاولى،2012ص160.
10-عبد الله بن ابراهيم التسافتي ،رحلة الوافد،تحقيق علي صدقيءازايكو،بالقنيطرة،منشورات كلية الآداب،1992،ص ص74،79،115.نقلا عن ،محمد جادور،مؤسسة المخزن في تاريخ المغرب،سلسلة أبحاث،مؤسسة الملك عبد العزيز الدار البيضاء،الطباعة:منشورات عكاظ، 2011 ص398.
11-أبوالقاسم الزياني،”البستان الظريف في دولة أولاد مولاي الشريف،تحقيق رشيد الزاوية،الرباط،1992،ص178-179.نقلا عن محمد حبيدة،مقال”التاريخ الحارق عنف وعنف مضاد”ضمن كتاب بؤس التاريخ مراجعات ومقاربات ،دار الامان الرباط ،الطبعة الاولى،2015،ص ص192-193.
12-محمد بوكبوط ،السلاطين العلويون والامازيغ (نصوص مختارة)،دار ابي رقراق للطباعة والنشر،الطبعة الاولى،يونيو 2005 ص34.
13-عبد الاحد السبتي،مرجع سابق،ص ص157-158.
14-الحجوي محمد بن الحسن،تقاييد تاريخية،م.خ.ع ،رقم :ح128،ص47.نقلا عن علي بنطالب،المخزن والقبائل الضغط الجبائي وتداعياته1894-1912،منشورات المعهد الملكي للثقافة الامازيغية،مطبعة المعارف الجديدة،الرباط،2013ص330.
15-عبد الله العروي،الاصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830-1912،تعريب محمد حاتمي-محمد جادور،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،الطبعة الاولى،2016،ص470.
16-عبد الأحد السبتي،نفس المرجع،ص166.
17-اسماعيل التزارني،مقال”سياسة قطع الرؤوس التاريخ الدموي”،مجلة الآن،ع85،من 6الى 12دجنبر2013ص22.
18-عبد الرحمان ابن زيدان،اتحاف الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس،الجزء3،ص480.نقلا عن عبد الله حمودي الشيخ والمريد النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة يليه مقالة في النقد والتأويل ،ترجمة عبد المجيد جحفة،دار توبقال للنشر ،الطبعة الخامسة،2014ص87.
19-عبد الله التسافتي،مرجع سابق ،ص 150،نقلا عن محمد جادور،مرجع سابق،ص398 بتصرف.
20-محمد حبيدة،مرجع سابق،ص193.بتصرف.
21-بريثويت Braithwhaite (جون)،تاريخ الثورات في امبراطورية المغرب بعد وفاة السلطان الراحل مولاي اسماعيل،ترجمة مينة مادي،رسالة د.د.ع في التاريخ مرقونة،الرباط،كلية الآداب،2000ص232. نقلا عن محمد جادور،مرجع سابق،ص399.
22-عبد الاحد السبتي ،مرجع سابق،ص156.
23-لطفي بوشنتوف،العالم والسلطان،دراسة في انتقال الحكم ومقومات المشروعية.العهد السعدي الاول،منشورات كلية الاداب والعلوم الانسانية،الدارالبيضاء/عين الشق،2004،ص450.نقلا عن محمد حبيدة،مرجع سابق،ص194.
24-ادريس الكنبوري،رواية زمن الخوف،الطبعة الثانية،مطبعة طوب بريس،الرباط ،يناير2016،ص151.
25-محمد امين بنيوب، كرنفال [نص مطبوع ] : من ذاكرة سنوات الاستبداد، منشورات مسرح القصبة، مراكش،2009،ص33.
26-محمد المنصور،مقال”أهل المغرب مجانين”،ضمن مجلة زمان،العدد38،دجنبر2016،ص47 بتصرف.
27- عبد القادر الدحمني ، رواية معزوفة لرقصة حمراء، ،نشر الراصد الوطني للنشر والقراءة(رونق )، الطبعة الاولى، الرباط ،شتنبر2016،ص399بتصرف.
المصدر : https://tinghir.info/?p=23882