من حق المواطن المغربي أن يتموقف وأن يستغرب المواقف المعلنة والمؤجلة لقيادات بعض الأحزاب السياسية، بل لبعض “منظري” الحقل السياسي لما بعد 7 أكتوبر 2016 . فبعد ظهور نتائج انتخابات 4 شتنبر 2015 انقسمت أغلب الأحزاب السياسية إلى تيارين أساسيين: تيار يدعم التحكم والتوجه نحو إنهاء قيادة حزب العدالة والتنمية للحكومة لولاية ثانية، بعدما فشلت محاولات الإرباك بكل الوسائل وتمثل بشكل جلي في حزبي الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية . وتيار ضد هذا التوجه بكل وضوح، كما هو الحال لحزبي العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية، وبدرجة أقل حزب الاستقلال والحزب الاشتراكي الموحد. وبين التيارين تقف أحزاب في موقف الممسك بالعصا من الوسط كالتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والاتحاد الدستوري .
وكلما اقتربت استحقاقات 7 أكتوبر التشريعية اتضح البون الشاسع بين التيارين في معركة سياسية غير متكافئة. تيار “البام” والاتحاد الاشتراكي استنفرت له كل الوسائل المادية وجيشت له وسائل الإعلام العمومية وغير العمومية، المكتوبة والإلكترونية، كما انحازت له مؤسسات غير مسموح لها الدخول المباشر في المعارك السياسية، كالمندوبية السامية للتخطيط وبنك المغرب وبعض النقابات والمنظمات الحقوقية واتحاد مقاولات المغرب وغيرها، وأحدثت برامج إذاعية وتلفزية ومنابر إعلامية جديدة وسخرت أقلام بعض “الأكاديميين”، همهم الأساسي الضرب في التجربة الحكومية وتبخيس عملها، ونعت رئيس الحكومة وحزبه ووزراء حكومته بشتى النعوت، في حرب قذرة لا علاقة لها بمقتضيات دستور 2011 . والأدهى والأمر هو التضييق الممنهج على حزب العدالة والتنمية وقياداته في التواصل مع المواطنين كما كان دائما . فترى القائد والباشا يمنع نشاطا إشعاعيا يؤطره وزير أو قيادي حزبي .
وطالت هذه الحرب الحياة الشخصية لقيادات حزبية وأخرى مقربة من حزب المصباح، أو من أحزاب التحالف الحكومي للنيل من الرصيد الأخلاقي لها وتشويه الصورة التي ترسخت لدى المواطن عنها من مصداقية ونظافة اليد، في حرب استنزاف إعلامية لا علاقة لها بما يفترض أن يكون عليه بلد في طور الصعود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والحقوقي كالمغرب .
بل ترى الولاة والعمال يوقفون مشاريع الجماعات التي يترأسها حزب العدالة والتنمية، ويمنعون العمل الخيري في رمضان، وتوزيع الأضاحي على الأسر المعوزة كما كان مألوفا حتى قبل 2009 و2015 في الكثير من المدن والجماعات، بينما تيسر الأمر لأمثال “ولد زروال” نهارا جهارا .
ومن الوسائل الوقحة، التي جعلت شريحة عريضة من المغاربة يضعون – أياديهم على قلوبهم – حسب تعبير المغاربة، هو انخراط وزارة الداخلية في الصراع السياسي والانتخابي ضد حزبي العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية، وفي دعم واضح لحزب الجرار حتى وصل الأمر إلى حد إصدار بيانات وبلاغات ضد حزب أو مسؤوليه في سابقة خطيرة .
كما دعمت – بل دعت – وزارة الداخلية عبر بعض ولاتها وعمالها وقوادها وشيوخها ومقدميها إلى تنظيم مسيرات وطنية وجهوية كما هو الحال بالدار البيضاء، في ما يشبه الفضيحة ضد حزب العدالة والتنمية وضد رئيس الحكومة، وكذا بالرشيدية ضد رئيس جهة درعة تافيلالت في إخراج متشابه ومتطابق .
هذه الألاعيب أصبح يعرفها الخاص والعام في الحواضر وفي القرى، وساهم في كشفها حزب العدالة والتنمية وحزب التقدم والاشتراكية وبعض وسائل الإعلام الغيورة على مستقبل المغرب وعلى خياره الدمقراطي طيلة السنة الفاصلة بين الاستحقاقين، أو خلال الحملة الانتخابية لتشريعيات 7 أكتوبر 2016. وهو ما ضل يفعله التيار المقابل والمناهض للتحكم إلى جانب التسويق للإنجازات الحكومية .
وجاء يوم الفصل – 7 أكتوبر – والذي بصم على وعي شعبي كبير والتزام ملكي واضح بخطورة التراجع عن الخيار الدمقراطي والإرادة الشعبية، وانتصر الوطن وتمكن حزب المصباح من تصدر الانتخابات بفارق كبير عن مطارده المدعوم – بالدوباج – وهدأت النفوس وساد الاطمئنان على مستقبل المغرب وترسخت استثنائيته ملكا وشعبا ومؤسسات وقوى حية حقيقية .
إلى هنا الأمر واضح بل زاد وضوحا، لكن الغريب أن بعض الأحزاب والقيادات الحزبية، والتي كانت تروج لخطورة “أخونة” الدولة والمجتمع وتهدد المغرب بمستقبل شبيه بسوريا إذا صوت الشعب على المصباح، نراها اليوم تقلب “الفيستا”، وتدعو الى المصالحة التاريخية وكأن الدولة أوالحكومة كانت تبيد الشعب . وأخرى تأتي في ثوب المذنب التائب بحثا عن موقع في الحكومة أو ما شابهه وأخرى تتجمع لتفرض نفسها في الحكومة والبرلمان، وهي التي خانت ميثاق التحالف الحكومي في انتخابات مجالس الجهات وبعض المدن الكبرى في استحقاقات 2015 .
إن المواطن المغربي الذي تحمل مسؤولية تاريخية واختار الأنظف والأصلح ولم يخضع لمختلف الضغوط والإغراءات وساند خط استكمال البناء الدمقراطي ومواصلة الإصلاح المجتمعي، ينتظر اليوم أن تترجم أصواته إلى اختيارات سياسية وبرامج اقتصادية واجتماعية. اختيارات سياسية تعيد للحقل الحزبي وهجه ومصداقيته من خلال تمكين أحزاب وطنية وقوية تمتلك قرارها وتعلي المصلحة الوطنية على غيرها من تعضيد عمل رئيس الحكومة المعين، وقادرة على تجاوز الخلافات وأعطاب الطريق بالمعالجة الحكيمة والضرورية دون إرباك أو تخلي .
كما أنه من الاختيارات السياسية الحكيمة عدم السماح بالتهجين في الوصفة الحكومية بين من يقبل بالخيار الديمقراطي حقا ومن يتقلب ما إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . فاقد للقرار الحزبي غير ممسك بوحدته التنظيمية، أو من لا يزال يعزف على وتر التشكيك في مرجعيات الدولة والمجتمع وبذلك يهدد تماسك المجتمع المغربي .
لقد أعطى الشعب إشاراته القوية وأشر جلالة الملك على اختياراته باحترام الدستور والمنهجية الديمقراطية. والكرة اليوم بيد الأحزاب ورئيس الحكومة المعين لتجسيد الإرادة الشعبية عبر حكومة منسجمة متوافقة على مواصلة إشعاع المغرب خارجيا وتوفير فرص الصعود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، الذي يصبو إليه هذا الشعب العظيم وترسيخ الاستثناء المغربي دون ابتزاز ولا مجاملة .
أما البرامج الاقتصادية والاجتماعية فهي نتيجة لكل هذا، ولا يختلف عليها اثنان بين مواصلة للأوراش المفتوحة كتشجيع الاستثمار وتنزيل ورش الجهوية والتحكم في التوازنات المالية ومواكبة السياسات القطاعية الكبرى كالإقلاع الصناعي والسياحة والفلاحة والطاقة والمعادن… وبين الاهتمام أكثر بالقطاعات الاجتماعية والتي تعتبر رافعة لكل هذا كإصلاح الإدارة والتعليم والتكوين بكل أسلاكه والصحة بكل مستوياتها والتشغيل ومتطلباته .
ختاما أقول إن الموقع التفاوضي لرئيس الحكومة اليوم أسهل وأريح منه في سنة 2012 وانتظارات الشعب اليوم أكثر وضوحا وإمكانا وفي متناول الحكومة المقبلة إذا أحسن اختيار الفريق الذي سيقود السفينة .
المصدر : https://tinghir.info/?p=22550