لفَظتها حمِيّةُ مُتابعةِ الدراسات العُليا إلى رُكوب الحافلة من جديد، لقد مَضى حين من الدهر على لِقائها الأول بأسْوار الجامعة ومُدرجاتها ودُخان مَقصِفها العُشْبي الزاهر. تلك أيام خلت، تتداول بين الناس وفيها من العشق والنضال الشيء الكثير.
الساعة الرابعة صَباحا، المحطة الطرقية “بابُ دكالة” في حركة دؤوب؛ الخارجُون والداخُلون عبر الباب الكبير كخلية نحْلٍ نشيطة، لم يتمَلكها الخوْف من الزحام والعُيون الجاحِظة بجنباتِ المحطة، بل مُسرعة دلفَتْ الى مقهى المحطة، وضعت مِلفها الأصْفر فوق ركبتيها وطلبت من النادل الأسمر البدين أن يناولها كأس حليب ساخن. بجوارها يجلس القرفصَاء رجلٌ عجُوز استحوذ الشاربُ الكثيف على ثلثي مسَاحة وجهه، وعلى جنباته آخرون تلاعبَ النّوم والسهر بجفونهم حتى كادت أن تنطبق. فقط مُساعد النادل – رغم صِغر سنه- من وراء جدار المِنضَدة يسْترق إليها النظر مراتٍ عديدة وبشكل وامِض.
سماءُ المدينة يكاد يُبين، وهدير مُحركات العربات والحافلات يشتدّ شيئا فشيئا. تأبطت أغراضها القليلة، وبدأت في تمزيق أوصال المدينةِ الحمْراء دُون رحمة. قبل أن تلج بوابة كلية الآداب استوقفها الحنين الى فطور الطلبة؛ رغيف ساخن مُثخن بالجُبن وكأس شاي، الجميعُ لا يعرفها هُنا، لذلك رغم الجحَافل الغزيرة من الطلبة والطالبات، فهي لم تستحضر حُصول المفاجأة من تلامذتها القدماء بالثانوية، فطولُ عهدها بهذه الأجواء أنسَاها حتى من تكون. اعتراها إحسَاسٌ لذيذ، فلم تتردد كثيرا لتحشر جُثتها وسط الطابور نحو رحاب الكلية، وبالضبط بقسم دراساتِ الدكتُوراه.
داخل مكتبِ الاجتماعَات المتربع على جهة اليمين من بابِ الدخول، عنّفها فجأة سُؤال الماضي وأيام الزهْو بفاس والرباط، عاد بها الخيالُ بعيدا نحو عِز المعرفة والمحاضرات والحبّ كذلك، وتقاطرت عليها عشرات الأسئلة وأنصافُ الأجوبة، كيف لها أن تُعِيدَ كل ذلك وهي الآن حُبْلى بغريزة البحث والمعرفة؟ أليست مُخطِئة حين أذِنَت لِفكرها أن يُحبّ من جديد ردهات الجامعة؟ كيف يُمكنها وأْدُ هذا الاحسَاسِ القوي، الذي يغتصِبُ هُدوءها وكسَلها سِنين عَددا؟
أسئلةٌ ثقيلةٌ بلا أذيال ولا أبدان، تناسَلت بشكل هستيري حتى كادت أن تخنقَ رُوحها. تملْمَلت من مكانها وهي تتجه نحو مكتب مُنسِّقة الوحدة، أخبرها، مُسبقا، بعض الفضولين، أنها أنثى، وبذلك نَطّ إلى ذهنها أنها قد تتفهمُ بعضًا من إدمانها على القراءة والمعرفة، فحاسّة الأنوثة المشتركة قد تأتيها ببعض الفضل والحُبور. طرقَت الباب همْسًا، ثم سمِعت من ورائه رجْع صَدى الكعْب العَالي عبر خطوات مُتغنّجة، مرحبًا أستاذة؛ تفضّلي. الجميع شكر مجهُوداتك القيمة في البحث والاقتراح، لكن طبيعة البحث في البُنى اللغوية الأمازيغية وسياقاتِ تداولها اصْطدم بعَدم وجُود أستاذ مُشرف مُتخصّص في الموضوع ، نعتذر منك.
لمْ تندهش، كما كان يحدُث لها أيام مُراهقتها، ولم يَرجف قلبها قويا، بل تنفّست الصُّعداء. على الأقل سترجع الى حبيبها السرمدي الجميل، ستحضنه لسنوات أخرى حتى يحين الأجل الجديد، فالنَّوم كل حَياتها وأملها، وعليه قد كتبت قصَائد عِشق عرْجاء، تئِن من ثِقل الاحْساس والفَقْد.
بحرْسٍ شدِيد ربَّتَ النادل على كتفها العَاري قائلا بصَوت رخيم: سيّدتي لقد نِمْت أكثر من ثلاث ساعات، وأخشى أن يسرق أغراضك لصُوص النهار. رفعت بثقل السكارى جُفونها وهي تكتشف المكان بألوانِ النهار، لمست مكان مِلفها الأصفر فلم تجده، فزعت فتوقّدت حَواسها بغتةً، خيُوط شمْس الصّباح تُقبّل جُدران المحَطة، وأهلُ النهار في شُغلِهم فاكهُون، برقَت بعيُونها المتوقدَة نحْو مكان النادِل الصّغير، فلم تجِدهُ. تذكّرت حينها أن جُرعةَ إدمانها على حبِيبها النوْم، لم تكن أقَل من حُبها للبحثِ والمعرفةِ.
…………
المصدر : https://tinghir.info/?p=22349