لفهم طبيعة أزمة العقل الإسلامي وأسبابها لابد من تسليط الضوء على إشكالية مفصلية تمكننا من الوقوف على أسباب التحولات التي عرفتها تيارات الإسلام السياسي في مواقفها من طبيعة الدولة ومفاهيم الحداثة والديمقراطية، هذه الأفكار والمفاهيم كان إلى وقت قريب يُنْظَر إليها بتحفظ وبنوع من الشك والريبة أو حتى الحرمة والكفر بها في الحقل التداولي الإسلامي، خصوصا تلك التيارات التي تعتبر الوسطية والاعتدال منهجا لها في مقاربة قضايا السياسة والاجتماع، وغالبا ما لا تستحضرها في صراعها مع قوى التحديث، بل تحاول تغييبها والتغاضي عنها ما أمكن، وتكتفي بالنظر الى مجموع القضايا التي وقع فيها الاجتهاد والتجديد والمراجعة باعتبارها أهم القضايا التي تساهم في إخراجها من دائرة التقليد والرجعية والماضوية إلى ساحة أوسع تساعد على اندماجها في الحياة السياسية وتدبير المؤسسات وتمثل روح العصر.
هذه القضايا أعمل فيها العقل الإسلامي آليات النظر الأصولي وفقه الواقع أو انطلاقا من مسألة الثابت والمتغير وقواعد المفسدة والمصلحة وأخف الضررين، خصوصا ما تعلق بمسائل الفقه السياسي والعلاقات الاجتماعية، فالعقل الإسلامي يرى نفسه من هذه الزاوية يساير تطورات العصر ويلامس قضاياه ومستجداته، أما عن هذه الإشكالية فهي تجد جذورها في بعض النصوص التراثية باعتبارها مصدرا إيمانيا لقراءة الغيب المخبر عن أحداث ستقع في المستقبل. ورغم اعتمادها على تلك التصورات الجديدة التي ساهمت في اندماجها التدريجي في اللعبة السياسية، إلا أنها لا تزال غير قادرة على فك عزلتها الفكرية عن ذلكم الإرث الثقافي التاريخي، و التخوض في متاهة تقديس الأشخاص والآراء التي تحولت للأسف إلى مرجعية مطلقة غير قابلة للتساؤل والأخذ والرد.
إن العقل الإسلامي المعاصر مهما ادعى لنفسه من مقومات التجديد والعصرنة يرى أن القرون الثلاثة الأولى للإسلام والتي تبتدء بقرن البعثة النبوية مرورا بقرن الصحابة وانتهاء بقرن التابعين، هم أفضل القرون البشرية على الإطلاق، لأنها الأقرب إلى عصر الوحي والاكثر التزاما بحرفيته ومن ثم فهي الابعد عن مظاهر الفساد والفتن والكوارث التي اقترفتها الانسانية في تاريخها، بمعنى أن القرون التي تأتي بعد هذه القرون الثلاثة هي الأقرب إلى الفساد وأشد التصاقا بالفتن واقترافا للكوارث لبعدها عن تجليات الوحي وتمظهراته وما أنتجه العقل الإسلامي في تلك المراحل، وبمعنى آخر يؤمن العقل الاسلامي أن العصور المابعد هذه القرون الثلاثة تتجه بشكل أو بآخر نحو التدهور والانحطاط والتفسخ والانحلال في كل مناحي الحياة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وستمتد هذه المظاهر إلى حين تحقيق الخلافة على منهج النبوة كما يرى بعضهم، أوظهور المخلص المهدي المنتظر ونزول عيسى بن مريم كما يرى البعض الآخر. ولذلك فهو دائما ملتصق شاء أم أبى بضرورة العودة إلى كل ما أنتجه العقل الإسلامي في تلك الحقب الثلاثة. مهما ادعى لنفسه من مقومات الحداثة والعصرنة.
بينما ترى قوى التحديث أن البشرية في سيرورتها التاريخية تتجه نحو التطور والتقدم وذلك اعتمادا على جدلية التغيير والتحول، وسير الإنسانية المتواصل إلى الأمام، وانتقالها المتواتر من عصر إلى آخر أكثر تطورا وتقدما من سابقه، مما يجعل الحاضر دائما أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر. وترى أيضا ضرورة تحرير عقل الإنسان وإطلاق طاقاته الإبداعية والنقدية من كل القيود المكبلة، وتأهيل الموارد البشرية للانخراط الجماعي في بناء المجتمع الحديث، ولا يتأتى ذلك إلا في إطار النظام الديمقراطي الذي لا مكان فيه للاستبداد والانتهزية والنفاق، ويتيح الحريات الفردية والجماعية، ويوفر الضمانات الكافية لاحترام حقوق الإنسان، وحقوق المواطنة بما تعنيه من حرية الانتقاد والمشاركة والفعل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن العقل الإسلامي إذا ما أراد فعلا الانخراط في المشروع الديمقراطي الحداثي، فهو ملزم أن يعيد النظر في هذه النصوص التراثية ومدى مطابقتها للواقع، وهذا الأمر مستبعد مرحليا، لأن هذا الانخراط يقتضي الارتكاز على مرجعية فكرية حداثية تقطع إلى حد ما مع تلك النصوص التي يعتبرها غيبية وترتبط بقضايا الإيمان، ومن هنا يمكن أن نفهم أن تلك المراجعات والتجديدات في قضايا السياسة والاجتماع وقبول أعراض الحداثة والديمقراطية لا جوهرهما الفلسفي، ما هي إلا وسائل مرحلية أو حيل تكتيكية للتوغل في تفاصيل الدولة ومؤسساتها ومن ثم فرض النموذج الإسلامي التقليدي بكل حذافيره على واقع مختلف ومتحرك.
ولا يفهم من هذا الكلام أننا ندعو إلى القطع تماما مع التراث بل إلى قراءة عصرية للتراث تنفي النموذج التقليدي حتى لا نقرأ الواقع على خلفية تراثية.
المصدر : https://tinghir.info/?p=22143