الدستور الذي صاغته إرادتان متلاحمتان : إرادة شعبية نافدة وإرادة ملكية قائدة ، إبان الحراك الإصلاحي التاريخي السلمي الكبير في ربيع 2011، هو عنوان كرامة الشعب وهيبة مؤسسات الدولة. والدستور بهذا الزخم هو التعبير الأسمى لهذه الإرادة الوطنية المدسترة من أجل التعايش المسؤول بين المواطنين ومؤسسات الدولة الخادمة لهم ، في إطار مجتمع تنمية الثقة والتعاون واللاتنازع والتنافس الشريف المفضي لخدمة الوطن والارتقاء المستمر بأوضاعه نحو الأفضل.
هذا الدستور المتقدم حقق بلا تلعثم حزمة نوعية من الإصلاحات والمصالحات الكبرى ناضلت من أجلها أجيال عديدة ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ، ومن أبرز تلك الإصلاحات :
– التأكيد في تصدير القانون التعاقدي الأسمى للأمة على أن ” المملكة المغربية ، وفاء لاختيارها ، الذي لا رجعة فيه في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون ، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة ، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة ، وإرساء دعائم مجتمع متضامن ، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة ، وتكافؤ الفرص ، والعدالة الاجتماعية ومقومات العيش الكريم ، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة .”
– اعتبار الاختيار الديمقراطي ( في الفصل الأول ) بمثابة الثابت الرابع ضمن الثوابث الجامعة التي تستند عليها الأمة في حياتها العامة ، بعد الدين الإسلامي السمح ، والوحدة الوطنية متعددة الروافد ، والملكية الدستورية .
بهذا القول الفصل الذي ليس بالهزل ، نطقت الإرادة المشتركة السامية للملك والشعب في ثورة سلمية مدوية ومتجددة إبان استفتاء 2011 افتخر المغرب والمغاربة بهذا الإنجاز الكبير وتباهوا به في العالمين ، ومرت خمس سنوات من الكدح الملكي والحكومي والتشريعي والمدني والشعبي أثمرت التمجيد المستحق للاستثناء المغربي والعبقرية المغربية في النأي بالبلاد عن طرائق ومآلات التدبير التحكمي الاستبدادي ، والتوجه بشكل لا رجعة فيه ، نحو ولوج عصر احترام إرادة الشعب والتسليم بالانتخابات الحرة والنزيهة والمنتظمة، مدخلا وحيدا لبناء المؤسسات المنتخبة المكلفة بإدارة الشأن العام .
مرت خمس سنوات تأسيسية صعبة من كفاح الارتقاء بواقع تدبير صناعة القرار العمومي و ملاءمته أكثر مع نص الدستور وروحه . مرت ولاية تفعيل الدستور وإعادة كتابته المفصلة في منظومة من القوانين التنظيمية والعادية بكل صعوباتها وتعقيداتها وتجاذباتها ، وربح معها المغرب إصلاحات ومصالحات كبيرة جسدها الاهتمام المتزايد بالسياسة لدى المواطنين، والتوسع التدريجي لحقول مشاركتهم في صناعة القرار التنموي لوطنهم وجماعاتهم، كما تضاعف لديهم الطموح والأمل في العيش الكريم بما عاينوه من مصداقية والتزام وجرأة في مواجهة إرث عصيب من الملفات المرحلة من حكومة لأخرى ، ومنذ عقود .
على العموم ، ورغم ثقل إرث التقاليد في إدارة شؤون الدولة ، حصل المراد وبدأت تترسخ الثقة في اجتهاد غالبية الفاعلين لاستفراغ الوسع في احترام الدستور. ومع أول امتحان جرى في انتخابات 4 شتنبر 2015 اطمأن الناس إلى أن البلد يسير نحو التطبيع النهائي مع احترام الإرادة الحرة للمواطنين ، رغم أن انتخاب رؤساء المجالس الجهوية ومكاتبها وجه ضربة التفافية مباغتة لهذه الثقة المتنامية في احترام نتائج صناديق الاقتراع.
للأسف ، لم تستمر هذه الوثيرة المتصاعدة في استحضار قيمة الإصلاح الدستوري وتجاوز كبوة الانتخابات الجهوية ، بل تفاقمت الأمور ، مع اقتراب موعد الامتحان الدستوري الثاني المرتقب يوم الجمعة 7 أكتوبر القادم ، في اتجاه صناعة مناخ تراجعي أرخى بظلاله الثقيلة على البلاد ، وبات الناس يشعرون أن أمرا ما يدبر بليل لفرملة الطموح الديمقراطي للشعب المغربي ودفع الوطن نحو خطر الانسداد السياسي من جديد.
وباستعراض سريع للأحداث المتلاحقة خلال الشهور الأخيرة ،تتظافر كل القرائن لتأكيد وجود صناعة تشريعية وإدارية وتدبيرية إرادية موجهة لحالة ” القيامة ” التي حذر من مخاطرها آخر خطاب ملكي سامي ذي صلة. فالحديث بين الناس في كل مكان ، وفي العالم الأزرق حيث يشكل الشباب غالبية ساكنته ، لا يدور إلا حول تقاسم الشعور بالخوف والغضب من كون المغرب يتجه نحو نكوص لاديمقراطي قد يعصف بكل تراكماته الإيجابية في توطيد السلم الاجتماعي، والتحسن المطرد لصحة المالية العمومية والاقتصاد الوطني، وتعزيز التماسك الاجتماعي ، والثقة في المؤسسات واحترام الاختيار الديمقراطي الذي ارتضاه المغاربة في دستورهم ثابتا من ثوابت الأمة.
للاقتراب أكثر من التحضيرات الجارية لمشهد ” القيامة ” المرتقب، نسوق عينة / تساؤلات مما يتداوله الناس ويصنع حالة الترقب المقلق ، والغاضب أيضا، لما يجري في البلد :
1 – عدم احترام الأدوار الدستورية للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني : فالاختيار الديمقراطي لا يتعزز في غياب حرية تأسيس الأحزاب وسهولة التنظيم السياسي للمواطنين وقيامها بأدوار التأطير والتكوين والتمثيل ، وكذلك الشأن بالنسبة للجمعيات . فمن يا ترى منع أنشطة متعددة لحزب سياسي يقود الحكومة ؟ بل منع قيام وزراء بالتواصل مع عموم المواطنين ؟ ومن قام بمنع جمعيات عديدة من القيام بأدوارها التربوية والتكوينية والترفيهية التي اعتادتها منذ سنين ، حتى إنه لم يسلم من ذلك مخيمات للأطفال ؟
2- عدم تحقيق حياد الإدارة : المنافسة المتكافئة بين الاحزاب شرط لازم للتحقق من ادعاء احترام الاختيار الديمقراطي. فمن أمر الإدارة التي تديرها الحكومة بالتصرف كأنها طرف في المنافسة الانتخابية : في حالة عامل تاونات المعين باقتراح من رئيس الحكومة ، تداولت وسائل إعلام ذات المصداقية خبر قيامه بثني مرشح ( رجل أعمال ) عن الترشح باسم حزب رئيس الحكومة! (لم يصدر لحد الساعة نفي لهذا السلوك المخالف للدستور والماس بهيبة مؤسسات الدولة ) من يريد إذن أن يجعل حزب رئيس الحكومة محرما على رجال الأعمال ؟ من يريد أن يسوق رجال الأعمال تخويفا و ترهيبا نحو ” زريبة ” / حظيرة حزب ذي أصل تجاري فاسد..كأنهم قطيع لا حرية له في الاختيار ؟
3- تسخير الإعلام لتشويه وتلويث البيئة الانتخابية : في فلسفة الاختيار الديمقراطي، يعتبر الإعلام سلطة مضادة تصنع ، بالخبر اليقين والمعلومة الصحيحة والتحقيق الجريء والمهنية والاستقلالية ، رأيا عاما يسلح وعي الشعب بأدوات الفهم والتحليل من أجل ممارسة سلطة الرقابة الشعبية على صناعة القرار العمومي و الانتخاب والترافع والمحاسبة في الوقت المناسب . فمن صنع ومول إذاعات ومنابر ومواقع إعلامية كثيرة متخصصة في التضليل الإعلامي وتبخيس دور هذه السلطة الرابعة ؟ من حشد لها أشباه القانونيين والمحللين والخبراء ؟ من صنع ” فضيحة ” تسمى “إعلام الفضائح” الذي سود صورة المغرب في الداخل والخارج..لأن بضاعته الكذب..وتجارته الكذب..وعواؤه الكذب ؟ من حول ، مثلا ، طلب كراء أرض في إطار القانون، – دون أن ينتج عن ذلك أي أثر قانوني! – إلى ضجة فارغة وعملية سطو مزعوم على أراضي سلالية ، ثم واصل الاستثمار في الكذب بتنظيم مسيرة سياسية لصالح حزب “الجرار” في مواجهة حزب “المصباح” في عاصمة جهة ” المعقول ” درعة تافيلالت ؟ من أمر بتزوير فاتورة فندق لاتهام رئيس جهة ينتمي تحديدا لحزب المصباح، بأداء مصاريف سياحة أفراد من أسرته على حساب الجهة، والرهان بذلك على عائد سياسي مفترض من كل هذه البهلوانيات ؟!!
في المحصلة ، لا خلاف اليوم أن هذه العينة المعبرة ، من سيل عرمرم من الممارسات التي ألحقت أضرارا جسيمة باحترام الدستور ، شكلت وعيا شعبيا متصاعدا عنوانه الكبير هو الآتي : إن ذكاء المغاربة أرقى من أن يصدق أن خرافة “إلياس” أو حدوثة ” البام “.. أو أي أدوات تنفيذ أخرى. . إعلامية أو إدارية أو مالية أو مقاولاتية ، هي صاحبة البطولة المتهورة في ما يجري ويدور من تتابع أشراط القيامة الانتخاببية وعلاماتها الصغرى والكبرى ؟
نعم..إن الأمر خطير للغاية وبلا شك..لأن اهتزاز الثقة لدى الشعب في قيمة دستور جديد لم يجف مداده بعد ، وكذا الإضرار بحرمة دستور جديد حامل للأمل في الإصلاح والمصالحة ولما يمض بعد على تطبيقه خمس سنوات !! مشهد مثير للغضب والغثيان والغليان ..وعاقبته لا يمكن أن يتمناها لوطنه ومؤسسات دولته إلا من تمحضت نيته لخراب العمران و جد عزمه لبلوغ فساد الأوطان . فهل سيحقق مهندسو هذا الخطر ، من المندسين في تلابيب موازية لمؤسسات الدولة ، غايتهم ؟ أم هل إن ثورة جديدة للملك والشعب ستلجمهم وتدفع حمقهم المتعاظم وخطر تدبيرهم الداهم عن حمى الوطن ؟ أم هل إن كلمة الشعب في 7 أكتوبر ستكون فاصلة ناصرة للدستور وداحرة لمكر يريد العبث بكرامة الأمة وهيبة مؤسسات الدولة بتمريغ الدستور في أوحال التحكم ؟
لننتظر.. واثقين من كلمة الشعب الحاسمة في ” جمعة zéro تحكم ” …!
وقى الله بلدنا الحبيب شر ما يحاك ضد اختياره الديمقراطي..آمين.
نشر بجريدة المساء يوم الاثنين 10 ذو الحجة/ 12 شتنبر
المصدرمراسلة الحبيب الشوباني للجريدة
المصدر : https://tinghir.info/?p=21285