لا زال الجدل محتدما حول هل نجح أو فشل أقصر وأخطر مسلسل تركي شاهدناه ليلة الجمعة 15 يوليوز 2016،والذي أجحظ أنظار كل العالم على كل الشاشات وحبس أنفاس كل المشاهدين على جميع القنوات،ليلة رعب واحدة جن فيها جنون الانقلابيين العسكريين التركيين فأرادوا اغتصاب الشرعية وسرقة الديمقراطية وهدر مسار التنمية عنوة في البلاد،واستجابة لنداء الرئيس المحبوب نزل الشعب يواجههم بمجرد صدور عارية وجهاديات مدوية “يا الله..بسم الله..الله أكبر”،فكان له النصر وكانت لهم الهزيمة والاندحار،حلقة واحدة في ليلة واحدة قضي فيهما الأمر وهي حلقة أصلية خير من ألف حلقة مدبلجة ماراطونية مريضة ممرضة مملة،لا فنا تنتج ولا فرجة تعطي؟؟.
لكن مقاهينا وملاهينا المدمنة،وعلى تعدد أنواعها وأشكالها وفضاءاتها الواقعية والافتراضية ونادليها وأندالها،قد تحولت مباشرة بعد الحلقة الحاسمة من المسلسل التركي غير المدبلج،إلى أندية سينمائية و صالونات سياسية سجالية كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة منذ زمان؟؟،لكن اليوم أرى القوم قد أصر على إحيائها وكأن سهرات “موازين ونانسي” لم تعد تنشطه ولا مباريات “البارسا والريال”عادت تكفيه،فأبى إلا تفجير حلبات صراع سفسطائي إيديولوجي عقيم،يحتسي فيه القهوجيون والملهجيون العديد من الأسئلة المغلوطة والملغومة وهم المعتادون كل يوم على شرب النرجيلة واحتساء فناجين القهوة السادة المرة والتهام علب السجائر السامة، وبلع العشرات من الهزائم السياسية والاقتصادية والتربوية التي طالما استمرئها الفريقين في القاعة وعلى القارعة بهتك الأعراض و تضييع الأغراض؟؟.
فريق”الجالية الفرنسية” في المقهى،من دوخة الإدمان وهول الصدمة لا زالت المشاهد تتداخل أمام عينيه والأمور مختلطة عليه،ولا يكف في كل لحظة باسم الإنسانية يتباكى على ضحايا الإرهاب في “Nice” و”Charlie”،ويصر على أن الديمقراطية لا معنى لها إذا لم تبح كل شيء حتى خرق المروءة والخروج على المشروعية فالناس أحرار،ولا مستقبل لها إذا لم تستوعب الجميع حتى المدمنين والمهمشين من ضحايا الضواحي؟؟.أما فريق”الجالية التركية”عندنا فعبثا يحاولون إيقاظ خصومهم وتنبيههم إلى أن الخطب الليلة لا يتعلق بفرنسا وإنما بتركيا،فردت عليهم الجالية المعلمنة حتى النخاع وهي تصارع نومها وصحوها من الثمالة،”الأتراك ممثلون..”لميس” “نور” و”مهند”..”منار” و”كمال”..”كولن” و”أردوغان”..كلهم ممثلون..وكلهم يستحقون قلب الطاولة عليهم..الانتخاب ديمقراطي..والانقلاب أيضا ديمقراطي..انقلاب على وزن انتخاب..قولي لنا فقط أين “منار”…أين “منار”؟؟…وإلا فاصمتي علينا أيتها الناهقة..مسكينة تلك المذيعة الناهقة..تقول”كولن”..إنها تتهم”كولن”..تتهمني أنا..أين الدليل..”كولن”في أمريكا ويقلب تركيا..وأنا هنا وأقلب أمريكا..أنا أقلب أمريكا وفرنسا وبريطانيا واسبانيا وتركيا..أين الدليل..أراكم تستخفون بقوانا العقلية..قسما بالله إنكم تستحقون قلب الطاولة”،وبحركة عفوية طائشة مخمورة يقلبون الطاولة والمقهى على زملائهم،وبعدما شاهد البطل ما أحدثته حركته الطائشة من الهرج والمرج في المقهى صاح منتشيا:”ههيييهه نجح الانقلاب”؟؟.
أما فريق”الجالية التركية”ورغم هول الصدمة فقد تمالك نفسه ورد على الخصوم القهوجيين:”أنتم فعلا قهوجيون ملهاجيون،انقلابيون فاشستيون،ولكن تأكدوا بأن الانقلاب أي انقلاب مصيره المحتوم هو الفشل،حتى انقلاب “السيسي” و”السبسي”والتحالف على الشعوب المقاومة لن يركعها فبالأحرى أن يدمقرطها،لأن الديمقراطية تأتي بصناديق الاقتراع وليس على ظهر الدبابات؟،والديمقراطية تأتي لبناء المؤسسات لا لقصفها؟،وحقوق الإنسان لا تكون كذلك إذا كان أول ما تنسفه هو الأمن والاستقرار والشرعية والاختيار الديمقراطي للشعوب وغير ذلك من حاجات ومكتسبات الإنسان؟،ولكن ليتأكد الجميع بأن الانقلاب أي انقلاب مصيره المحتوم هو الفشل،وكي تتأكدوا من ذلك ها أنا ذا أرفع الطاولة التي أسقطتموها،”ههيييههه فشل الانقلاب”؟؟،تصايحا الفريقان بشعاراتهما “نجح الانقلاب..فشل الانقلاب” حتى كادت الطاولة من إسقاطها ورفعها تتكسر فعلا،مما حاد بصاحب المقهى و نادله مدججين بكل القارورات الزجاجية والكؤوس الفارغة والمملوءة والصحون والأطباق أن يهرعوا لفك الاشتباك فبل سقوط الأرواح،وأن يطالبوا الجميع بالتأدب واحترام حقوق المقهى وإلا أخرجوهم منه؟؟،لم يأبه القهوجيون المتعاركون بأي شيء بل استمروا في تناطحهم وتطاحنهم وهم يغادرون إلى الشارع ليلتحق بهم بعض المؤيدين من هنا وبعض المعارضين من هناك،واستمر التنابز وعلا التناوش بين الفريقين في الشارع،وتفرج..يا سلام..وتفرج..يا سلام؟؟.
والواقع،أن المعركة المحتدمة ليست وهمية ولا خيالية،بل حقيقية تنم عن العقدة الأزلية بين العلمانيين والإسلاميين،والتعايش المضطرب بينهما،والذي سيظل كذلك على الدوام ما لم يعيشوا في أزمنة واحدة كما يعيشون في أمكنة واحدة؟؟.كما تنم عن حجم حاجتنا المهول إلى التشبع بالديمقراطية والدفاع عن ثقافتها الراسخة في كل العالم وعلى رأس ذلك الشرعية والمؤسسات والانتخابات والمصداقية والتنمية والعدالة المجالية لا الانقلابات والعسكريات والأعراف والطوارىء والديكتاتوريات؟؟.وتبقى الأسئلة الحقيقية متعددة لعلنا نورد منها:
- لماذا تركيا؟؟والآن؟؟وبهذه الكيفية،وهل هذه الأحداث الانقلابية نهاية أم بداية؟؟
- أليس الشعب التركي وحده المسؤول عن اختياره،وهو وحده المخول لمساءلته؟؟
- لماذا لم يشفع كل الانجاز التنموي غير المسبوق ل”أردوغان”ولا رابعته المعلومة ولا إسلاميته وعلمانيته المعجونة،عند البعض في ولاية آمنة كما تستوجبها افتراضا كل الأعراف؟؟
- متى كانت الديمقراطية وحقوق الإنسان تأتيان بالعسكر،وعلى ظهر الدبابات،ولقصف المؤسسات،وهي تدعي بنائها،ولماذا بعد طلك لا يعوزها شيء لإيجاد كل المسوح والتماسيح المدنية لجنونها؟؟
- هل هناك فعلا”أردوغانية” واستفراد بالسلطة فردي أو حزبي،يسري في تركيا المؤسسات؟،وما حقيقة “الكيان الموازي”،وتغلغله في المؤسسات،ولماذا تشبثت المعارضة بالشرعية ورفضت بدورها الانقلاب؟؟
- ما حقيقة التضييق على الحريات والصحافة والإعلام،وما حجم ذلك والبلد لا يفتأ يصرح أنه بلد حر متعدد علماني،والقنوات والوكالات فيه لا تعد،ولكن اللجوء السياسي لبعض رموز المعارضة خارج البلاد اختياري أم اضطراري؟؟
- لماذا انتقل المحيط الجيوستراتيجي لتركيا من صفر أعداء في كل من(روسيا وسوريا والعراق ومصر وإيران) إلى صفر أصدقاء،وما حكاية “أردوغان” و”كولن” على خلفية “مرمرة” و سحب السفير التركي من إسرائيل؟؟
- هل أخطأت تركيا في إيواء ملايين من اللاجئين السوريين،أو في الاعتراض على انقلاب السيسي والسبسي أوتأديب “بيريز”في “دايفوس”،والواقع قد بين استحالة قمع إرادة الشعوب رغم القوة والتحالف في القوة (اليمن وسوريا المقاومة نموذجا) ؟؟
- لماذا كل هذه التشفي القهوجي والفضائحية العربية الدفينة التي مع الانقلابيين وتنطق باسمهم،أكثر ممن معهم من الأتراك داخل تركيا،وهل كل هذا التشفي من “أردوغان”الزعيم أم من تركيا النهضة أم من التجربة الإسلامية المتميزة والصاعدة في المنطقة؟؟
- وأخيرا،ورغم أن الاتهام والاعتقال،لا يعني ثبوت الجريمة ولا إيقاع العقاب،فنسأل الله أن يعين الأتراك على تجاوز هذه الفتنة والمحنة بأقل الخسائر الممكنة،وأن يضمنوا المحاكمة العادلة للجميع،صحيح لو تمكن الانقلابيون ما رعوا في أحد إلا ولا ذمة، ولكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تكون قوة الشارع والتمكن بديلا عن ديكتاتورية العسكر ودمويته،فدستروا وقننوا وأنسنوا وإعدلوا”إعدلوا هو أقرب للتقوى”؟؟
يا الله،كم نحن مستعدون لقتل بعضنا البعض،والمشي تشفيا في جنازة بعضنا البعض،نقدس من نحب ونشيطن من نكره ونسيء الظن بمن نعرف ومن لا نعرف؟؟،ويبقى الأمر كما يعلم الجميع، أن أسؤأ ديمقراطية في العالم أفضل من أحسن حكم عسكري،ويوم نطرح مثل هذه الأسئلة الحقيقية ونتخذ إزاءها المواقف المبدئية الصحيحة،يومها يفرح المؤمنون بالنجاح الديمقراطي أو على الأقل هم على طريقه،أرجو ألا نفشل في هذا كما فشل الانقلاب والانقلابيون والقهوة والقهوجيون؟؟.
المصدر : https://tinghir.info/?p=19748