في ليلة ليست ككل الليالي ، جلست وحيدا في غرفتي أراجع بعضا من أوراقي ، وذكرياتي أطل من حين لأخر من نافذتي متٲملا هذه الحياة ، ملوحا بلغة الاستئناس الى نجوم السماء ، راويا لها بعضا من صفحات أوراقي ، راغبا في أن تشاركني في كل خطوة أخطوها نحو المستقبل ، نحو المجهول ، أملا أن تشارك شخوص حكايتي أتراحهم وأفراحهم . ولما استرسلت في رواية الحكاية أدمعت النجوم دموعا لم أعهدها في عيونها وكأني حكيت عن صديق لها استٲنست بعبير كلماته من قبل فسٲلتني قائلة :
– ما بالك اليوم مهموم ، تائه والنوم لم يجد طريقه الى عينيك ؟
– احترت في الاجابة و الافصاح عما يؤرق ذاتي فالتزمت الصمت مع أنه ضجيج من الكلمات والأفكار التي أحاورها في كل وقت دون توقف رغبة في نسيان الماضي والهروب نحو المستقبل …
بعد صمت دام لدقائق أخذت في سرد حكايتها كما لو أن جسدها اقشعر مما تعانيه بطلة القصة ، فلما أدركت أنها راغبة في التعبير بشتى الكلمات لتتخلص من ثقلها و من فصولها التي غمرتها مياه الحزن و اليٲس جلست أنصت إليها .
أجابت قائلة :
انك اليوم تدرف الدموع لكنك لو استمعت الى حكايتي هذه لملٲت بدوموعك ٲنهار المنطقة وحينها ستدرك أنك محظوظ في هذه الحياة .
ترى من تكون هذه التي تتحدث عنها النجوم بهذه الطريقة ، ٲهي امرٲة أعرفها أم ان النجوم تخيلتها لتسرد حكايتها علي، أم أنها صورة لإنسان الذي يريد أن يرتقي للٲعلى فلم يستطع، بعد أن كسر اليٲس والمجتمع جناحيه فسقط ٲرضا باكيا ثم استٲنس من جديد بلغة الامل ليرفع لغة التحدي في وجه اليٲس ، لكنه سقط من جديد …
تقول الحكاية إن صفية ارتدت المقاهي والفنادق واحيانا الشوارع ، لتحارب اليٲس و الفقر راغبة في نسيان الماضي وآلامه والظلم الذي طالها و يطالها ، هجرت الجبال والتلال لتقتحم الضيعات والمعامل لتحقق بعضا من أحلامها التي بعثرها الانسان في أوراقه ولم يبق منها سوى ندى دموعها .
تحكي النجوم عن بطلتها على أن الرجل سبب مآسها لأنه يلهث دائما وراء رغباته الجسدية والنفسية و الجنسية دون ان يترك لها مساحة للتعبير عن ميولاتها و رغباتها وجمد أحلامها .
بعد لحظات من الصمت تمتمت النجوم قائلة :
لماذا تلتزمون الصمت و تهربون من الحقيقة ؟ لماذا تعاملونها كالحشرة ؟ تدوسون عليها بٲرجلكم دون رحمة ودون شفقة ؟ لماذا تنعتونها بالساقطة التائهة كلما أشبعتكم رغباتكم فترمى في الأزقة والشوارع ؟ ما بالكم تعاقبونها بالكلام الجارح و الفض ولا تعاملونها على أنها روح وجسد ينبض بالحياة ،بالحنان ، بالأمل ، بالعاطفة و…
في اليوم التالي ، اتخذت وجهتي نحو مدينة اكادير لاجتياز امتحان الدورة الخريفية العادية وكل الأمل يعتلي صدري و كياني في الفلاح ، ركبت في الحافلة أفكر في الامتحان وخصوصياته ، ومتٲملا ما دار بيني و بين النجوم ليلة أمس محاولا ان أفهم و اقرأ بعضا من مضامين ما توسوس به ذاكراتها من كلمات وافكار . لما وصلنا الى مدينة ورزازات صعدت امرٲة الى الحافلة وسٲلتني قائلة :
– واش لبلاصة خاوية يا خويا ؟
– اه خاوية
جلست بالقرب مني ورائحة عطرها تفوح منها بقوة ، شعرها يرفرف على كتفيها و تنصت الى احدى الاغاني ثم قالت بكل عفوية :
– واش نتا غادي لمدينة اكادير
قلت لها : آه انا غادي لكادير ، عندي امتحان في الكلية .
ابتسمت قليلا وقالت بصوت منكسر :
انت محظوظ لانك اخترت مجالا سينفعك
فقلت لها : وهل انت استاذة او موظفة باكادير ؟
ضحكت ضحكة الأطفال والدموع تنسكب من عينيها ثم صمتت قليلا ولم تتمالك نفسها فضحكت من جديد فتعجبت من أمرها .
ثم أدرفت قائلة :
أنا أقصد جميع المدن في المغرب وأمتهن كل من شأنه أن يضمن قوت يومي ، أنا انسانة بلا هوية بلا أحباب لا ينتظرون عودتي بل غربتي واختفائي عنهم يريحهم و يسر ذاتهم ، لقد امتهنت الصمت لقضاء رغبات الاخرين واشباعها رغبة في البقاء ، أربح المال و أصرفه كله لأبدأ حكايتي من جديد.
التزمت الصمت أنصت الى كل كلمة تخرج من شفتيها الجافتين من الكلام ، أتامل في عينيها والدموع تنسكب على خذيها ، ففهمت من أفكارها أنها تائهة تبحث عن المعين في هذه الحياة ، عن رفيق يخفف من دموعها و نبراس ينير طريقها الى مستقبل مشرق .
عادت من جديد الى سرد حكايتها ، لقد اتفق أبي ذات يوم مع أحد معارفه الذين يعرفون بين القوم بالبدخ و الترف في قبيلتنا على تزويجي به وهو يبلغ من العمر سبعون سنة طمعا في التقرب اليه فرفضت في الصمت باكية ليل نهار دون ان أرى أذانا صاغيا و قلوبا قد تشفق على دموعي فظللت أبكي وحيدة أفكر في دراستي التي سأتركها رغما عني و أتامل في مستقبلي الذي سعيت لبنائه بطريقتي دون ﺇملاء من احد .
كيف لي أن أتزوج من رجل يكبرني بخمسين عاما أو أكثر ؟، كيف ساعيش معه لحظات الرمنسية التي قرأت عنها في روايات الحب و العشق ؟ لقد فكرت في الهروب بعيدا ، فكرت في الانتحار ، احترت في أفكاري لكني في ليلة من الليالي قررت أن أهرب من هناك بعيدا ، لكني لما هربت من أهلي أصبحت أهرب من الجميع لأختفي و أنتحر في كل دقيقة تمر علي فأصبحت عبدا للهروب .
كان الناس في تلك الليلة يحتفون بعرس إحدى صديقاتي بشاب من شباب القبيلة فأوهمت الناس بتواجدي معها فاستغليت تواجد أبي مع الحاضرين و امي مع نساء القبيلة لأهرب بعيدا عن أفكار الانتحار و الليالي الطويلة التي أرهقت كاهلي ، ولحسن حظي كانت قبيلتي قريبة من محطة الحافلات فاتجهت نحو الدار البيضاء حيث نساء و فتيات همهن الوحيد لقة العيش و إن كان على حساب أجسادهن .
في تلك المدنية ارتديت المقاهي لأضمن قوت يومي لكني لم أسلم من تحرش الرجال الذين لم يكتفوا بالغزل بل استدرجني صاحب المقهى نفسه الى بيته ذات يوم بعد أن نومني بأقراص قال انها انها تخفف الام الراس . عندما استيقضت ببيته من سبات وجدت نفسي في حالة لا يرثى لها فبقيت وحيدة في الفراش أبكي على ما ضاع مني ،تألمت كثيرا فندمت على ثقتي به في موقف لم يعد ينفع فيه الندم.انتظرت عودته ، انتظرته كثيرا لكنه لم يأت ،سهرت الليل كله أفكر فيما وقع وفي مصيري ماذا أفعل ؟ اغرورقت عيناي بالدموع .أنا هنا وحيدة غريبة ، الى اين سٲلجٲ لاخفي مصيبتي .؟
في الصباح غادرت الشقة الى المقهى لأشتكي لكنه تجاهلني كما لو أنه لم يعرفني و نكر علاقتي به فصرخ في وجهي أمام الملاء صرخة لم أقوى على احتمالها ،أحسست في موقفي هذا أني حشرة لا يأبه لها احد ، حاولت ان أتوسل اليه دون جدوى فاكتشفت كم كنت مغفلة لأن قلبه لا يحمل اي حب للاخر ، قلب بلا رحمة و لا شفقة.
هكذا سرت في الطريق وحيدة دون اتجاه ودون عنوان والدموع تنسكب من عيني على خذي وفي طريقي صادفت امراة في الاربعين وتاثرت لدموعي فسالتني :
– مالك يا بنتي علاش كتبكي
التزمت الصمت طويلا فلم أقدر على أن أتحكم في مشاعري فهرعت اليها لأضمها كما كنت أفعل مع أمي كلما ضاق بي الحال فأحسست بدفء يضمني ويعتلي صدري .
أعادت المراة سؤالها على مسمعي وهي تنظر الى عيناي والدموع تملاؤها
– مالكي اش واقع ليك ؟ راني بحال ماماك
– دارها بيا أوخلاني .
– صبري يا بنتي دابا افرج الله ، الله يخد فيه الحق
للا راضية التي لم ترزق بالاولاد ولم تدق طعم الامومة ، تٲثرت كثيرا فاقترحت على البنت أن تبيت معها في امل ان يقبل بها زوجها في منزله كضيفة .
لقد عاد الدفء والهدوء اللذان افتقدتهم و اعتلى الامل صدرها ومخيلتها ، لكن يا ترى هل سيقبل زوجها بفتاة غريبة لا يعرف أصلها ؟ يا ترى ماذا يخبئ هذا المستقبل لهذه الفتاة التي تذبل أزهار ربيعها في لحظات ؟ ماذا ستجني من دموعها و ندمها ؟
لو رضخت لقرار والدها لكانت الان على الاقل تنعم بالامان وقريبة من أهلها ، لو أن االقدر حكم عليها بغير ما حكم لكانت الان في صفوف الامل تداعب كلمات وحروف غذ مشرق تغازل فيه الكلمات و تستشف مغزاها وتتغنى بلحن الحياة تحث ظلال الطبيعة وتنعم بصدى الاصوات بين الجبال .
لواستطاعت ان تاسر قلب شاب من شباب القبيلة كما فعلت صديقتها لاصبحت الان في احضانه في بيت ينعم بالطمأنينة والسكينة ولما انكسرت احلامها و لما انهارت ،لكن القدر حكم ففي هذه الحياة كثير من التعساء يعانون في صمت و يخفون دموعهم و حسراتهم مبتدعين السعادة على وجوههم ،لكنهم في الحقيقة اناس يبحثون عن السعادة الحقيقية في هذه الحياة فتراهم سكارى في الشوارع يعاتبون بخطوات متثاقلة ، مرهقة و افكار مبعثرة .
بوصولها الى باب المنزل ، توقف القلب عن النبض وكانه يقول لا امل في الحياة ، لاجدوى من قلوب لا تعرف الرحمة ، عم الصمت مخيلة الفتاة بينما دعوات داخلية في نفسيتها بقبول استضافتها حتى تؤنسها و تعوض بها مرارة الاحساس بالغربة والتيه بين الجدران، فتحت المراة الباب ودخلتا الى البيت وجلستا لاحتساء الشاي لكن شهية الفتاة توقفت من جديد وفكرها مازال يسترجع الذكريات الاليمة وامل ضئيل يراودها للاستقرار . يا ترى هل تكون هذه نقطة النهاية للمشاكل والالام …،ونقطة بداية نحو مستقبل تبنيه بدموع الماضي ؟
استرسلت المراة هي الاخرى في سرد مشاكلها و حكايتها مع زوجها والامها واغترابها فلم تستطع ان توقف دموعها لانها لاول مرة تجد من تحكي له مشاكلها التي تتوارى عن الناس .
حكايتي يا بنتي غريبة ومؤلمة ، لست أدري من أين أبدا ، منذ صغري حرمت من دراستي ، اذ ان رغبة ابي في الحصول على المال قاده الى ارسالي الى هذه المدينة فعملت خادمة في بيوت كثيرة ،وغالبا ما كنت ضحية لعتاب صاحبة المنزل ، و حتى من تحرش أبنائها ﺇن لم أقل كذلك زوجها ، حتى ان احدهم ذات مرة كاد ان يغتصبني لولا أني قاومت شهوته فهربت الى الشارع و الخوف الى حدود اليوم رغم زواجي فان تلك اللحظات تداعب فكري وتعكر صفو حياتي ، مازال الخوف يغتصب حريتي و يقيد احلامي . ان حكايتي يا بنيتي تشابه حكايتك و ان نجوت من اغتصاب الشارع لكن للاسف فكل احلامي ورغباتي قد اغتصبت من رجل لا يعرف للرمنسية و الكلام الحلو طريق .
يا بنتي ، لا تعتقدي ان زواجي من هذا الرجل راحة او شيء من هذا القبيل ففي كل دقيقة ابكي صامتة لعتابه اليومي ، انه يتهمني دائما اني عاجزة عن الانجاب مع اني خضعت لفحص طبي اثبت ان زوجي هو العاجز ، لكن عجرفته و طبيعته الذكورية تقول : انت عاڭرة ماتصلحي لوالو ………
كلمات طالما جرفت فكري الى الهروب لكن الى اين ؟ كلمات تميتني في كل دقيقة و تحبس انفاسي في هذا العالم ، كلمات اشبه بلهيب النار يشوي فؤادي و تجعل جسدي مجرد هواية شهوة لدى الرجل .لم اعهد منه كلاما رمنسيا الا في بداية علاقتنا و تحول منذ علمه بعجزه عن الانجاب الى كلام جارح و ابيسامة منكسرة .
هذه انا للا راضية ، رضيت بوضعي رغم ما أقاسيه من غربة و انكسار داخلي لأني أدرك تماما أني مجرد عبيرة سبيل ومجرد جسد ﺇن هرم تركه الرجل ليتمتع بأخر ، فلا أحد يدرك أني أمتلك روحا و أحاسيس تحتاج الى من يسمع صداها ، رضيت بكل هذا حتى لا أخرج الى الشارع أو العودة الى بيت العائلة فالكثير من الدئاب تجول في شوارعنا تتصيد الفرصة لتعبث بجسدها .
يتبع
المصدر : https://tinghir.info/?p=19705