أعــراسٌ نشَــاز بالجنُــوب الشرقــي

admin
اقلام حرة
admin17 يوليو 2016آخر تحديث : الأحد 17 يوليو 2016 - 10:46 مساءً
أعــراسٌ نشَــاز بالجنُــوب الشرقــي
محمد بوطاهر

لن أتحدث عن تلوُّن مفهُوم الثقافة بتنغير واضمحلاله ولا عن استبدال الناس دُور العلم والمكتبات بحوانيت الطلاء والميكانيك ومحلات الأكلات الخفيفة التي تبين مقدار شجع المدينة وأهلها، لن أتحدث عن كل ما يظهر المدينة أخطبوطا متشعبا بلا رأس ولا قوائم ولا سِمَة ثقافية تُميزها كغيرها من المدن المجاورة السائرة في طريق الكينُونة والوجُود، بل سأتحدثُ باختصارٍ عن ظاهرة الأعراس النشاز التي تزدهر في الشريط الجنوبي الشرقي هذه الأيام، و تحديدا داخل مدينة تنغير، التي يتفننُ أهلها في طقوسِ زفافٍ دخيلة يضرون بها الجيران والناس ويحسبون أنهم بها يحسِنون صُنعا.

عقرب السّاعة الصغير يكاد يُقبّل العدد ثلاثة، أما الكبير فقد استوى بهيئته تماما على الرقم ستة، إنها أوائل الصباح بكل تأكيد، أقف مفزوعًا من مضجعي الصّيفي المفتوح إثر زوبعة أجراس سيّارات وبقايا أصواتٍ خُنثى أكل منها السّهر نصيبا حتى بدت كهمْهَمات السكارى، أزقة الحي خاوية نائمة و الدرب أسفل نافذة بيتي كله يغلي ويدوي، طابُور عُرس فُجائي يغتصِبُ حقي في النوم ويجتاز الأزقة والطرقات في منتصف الليل عازما ايقاظ كل النائمين الأبرياء.

لم أستوعِب الأمر كِفايةَ، فوقفتُ أكتشفُ الحادث البليد، الذي لا يأخذ بعين الاعتبار الوقت ولا الناس، فرمقْتُ وجوها عليها غبرة ترهقها قترة تضيئها أضواء السيارات تارة وتخفت، خليطٌ من الذكور والاناث وأشباههما في تكدُّس غاشمٍ فوق سطح “بيكُوبْ” كعلبة السردين، ومن ورائهم عددٌ من السّيارات المختلفة الأشكال والقيمة، الكلُّ غارقٌ في بحر الهرج والمرج كصبيان الحي القديم الذين لا يأبهُون لراحة الجيران. نظرتُ شزرا إلى ذيل الطابــور البئيس  (الكابوس اللئيم)، وأنا أغالبُ النوم واستمهله بُرهة كي أعود به إلى مرقدي، تذكرْتُ توا أني لم أتلذذ بطعم النوم ليالٍ عديدة بفعل الحرارة المفرطة هذه الأيام، وأن مثل هذا الوقت الذي يمر فيه هؤلاء الكائنات الحية – التي مازال يعني لها الزواج في زمن الارهاب والبطالة والانقلابات الشيء الكثير- هو الوقت الأمثل والأنسَبُ لأخذ قسط من النوم و الراحة، خاصة بعد يوم طويل من أيام تنغير المتعبة.

سُقْتُ هذا المشهد الحي الذي مازال يطِنُّ أثره وخزا في رأسي، لأندد بمثل هذه الأساليب الحمقاء التي لا تمت لطقوس أعراس المنطقة التقليدية بصلة، إنها ممارسات دخيلة هجينة، يحسبها البعض ترفا و رمزا للنبل والقيمة المضافة، وهي- في الحقيقة- غير ذلك، طيشٌ وعدمُ تقدير حُرية الآخر واحترامه وهي تصرف في مُنتهى الأنانية والتكبر، فبأي حق يُنتَهك سُكون الليل ويُحشَرُ الناس سُدى لحضور عُرَيّس( بالتصغير) عابرٍ لم يُسْتدعون إليه أصْلا. صحيح أن الدين الاسلامي نصّ على إشهار  الزواج وإعلانه بين الناس في ما نقله الترمذي وحسنه من الحديث الشريـــــف (أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدفوف واجعلوه في المساجد)، لكن بطرق مشروعة و بالحفاظ على الآداب وحقوق الاخرين. وهو الشق الأساس من الحديث الذي يُغيّبه الكثير، جاعلين من طقس العُرَيّس مُتنفسا كبتيا يتعالون فيه على المجتمع والأعراف. فلا معنى إذن أن تفرح العائلات المتصاهرة و يعيش الجميع من حولهم في ضجر وعدم راحة في انتظار انفراج الأزمة.

قديما كان العرس مناسبة لاحتفال القبيلة كلها وفرح الصغار و الكبار الشيب و الشباب، يسُود الاحترام والانتشاء أوقات معدُودات، إنها الفطرة والحَمِيّة القبلية السليمة التي فُطر عليها الناس وعاشوا بها ردحا من الزمن حتى بعث الله في الأرض ياجوج هذا الوقت، فضربوا التقاليد عُرض الحائط وأبدعوا أساليب مقيتة كهذه التي يرغمون الناس بها على الاشهاد ليلا وحضور مهزلة غالبا ما يصير مآلها بعد أسابيعَ أو شهور داخل إحدى جلسات الطلاق بمحكمة المدينة. فنحن لا ندعوا إلى إلغاء طقوس الزواج أو جعلها تنجز صامتة كالجنائز، كلا  لم يكن ذلك مرامُنا من هذا التنديد الشخصي، بل هي دعوة الى تقنين المراسيم وترشيدها واستحضار الآخر الذي من حقه الراحة والنوم والعيش في سكون وكرامة.

على الجهات المسؤولة كلها، وخاصة أثناء منح تصاريح الاذن بالاحتفال والذي يُحدَّد تاريخه ومكانه ومدة انجازه سلفا، والذي لا يجب أن يتجاوز منتصف الليل، أن تخرج عن صمتها وتضمن حق الآخرين. فالإزعاج جريمة منصوص على عقوبتها في الجنح الماسة بالأشخاص(القسم الثالث- الفصل 44 ) من قانون العقوبات، و عليه لا بد من تصحيح هذا الوضع الذي يستفحل مع استفحال بعض الأمراض الاجتماعية التي تمتح من الكبر و الرفعة والمباهاة الفارغة، والتي تجعل البعض يحسُّون- توهُّمًا- أنهم بإزعاجهم للجيران و حرمانهم من النوم، يزكُّون أعراسم ويرفعونها أعلى الدرجات وأسمى المقامات.

 الأعراس مَواسِمُ أفراح لا أتراح، فلا تفسدوها بأبواق سياراتكم المكتراة، ولا بكبرياء مراسيمكم التي لا هي تقليدية تراثية جميلة ولا هي حداثية تُضاهي أفراح قاعات العروض و أنشطتها الباهضة التكلفة والكبيرة في مردودية إحساسها ومشاعرها. كفاكم نفاقا -يا أهل الجنوب الشرقي- و استمسكوا بعروة تقاليدكم البسيطة المليحة، فتقليد الآخرين ب”البكُوبْ” وشاحنات النعاج و الملابس المستعارة و أواني الغرباء، أمرٌ  كاريكاتوري سخيف، يدعو الى الاضحاك أكثر مما يجلب السّعْد والشهرة للعرسان.

………………………………

المصدرمحمد بوطاهر- تنغير في  17 يونيوه 2016

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.