ديباجة:
أخي القارئ الكريم، أصل هذه المقالات بحث علمي سبق لي أن شاركت به في الندوة الجهوية الثانية التي نظمها المجلس العلمي المحلي بمدينة تنغير في موضوع: “العلامة محمد المهدي الناصري وآثاره العلمية”، يومي: 27_28 ذي الحجة 1435 ه الموافق ل 22_23 أكتوبر 2014 ه، وقد اقتنعت أخيرا بضرورة نشرها في حلقات تباعا على صفحات هذه المواقع الالكترونية المهتمة بقضايا وانشغالات وأخبار الجنوب الشرقي، لأسباب كثيرة أجملها في نقطتين اثنتين:
_إن الوقت وضوابط تنظيم الندوة لم يسمحا لي بتقديم ورقتين علميتين أمام الجمهور الحاضر، لذلك فقد اكتفيت حينها بتقديم ورقة موسومة ب: “ملامح من موسوعية التكوين العلمي لدى العلامة محمد المهدي الناصري”، وبقيت هذه الورقة صامتة هادئة في أحضان ملفاتي الخاصة في انتظار فرصة التواصل مع كل المهتمين بتاريخ المنطقة عامة، وبتراث الرجل على وجه الخصوص.
_لا أدعي أنني أحطت علما بكل جوانب إشكالية “مواقف محمد المهدي الناصري” السياسية والشرعية المعلنة في كتابه “نعت الغطريس”، كما لا أدعي أنني تمكنت في إفحام كل الباحثين الذين تهجموا على الرجل بحسن نية _بطبيعة الحال_، فحسبي أن أثير انتباههم إلى مسألة مهمة جدا وهي ضرورة التريث والتروي كثيرا قبل إصدار أحكام قيمة على الآخرين، وقبل تصنيفهم، ذلك أن باب البحث يبقى أبدا مفتوحا، وتبقى النتائج التي نتوصل إليها نسبية إلى حد بعيد مادامت محكومة بإكراهات وصعوبات يكفي أن أذكر منها ما تعرض له تراثه العلمي من حصار وضياع وتغييب ونهب.
في هذه الحلقة سأكتفي بنشر مقدمة البحث بكل ما تحبل به من إشكالات وأسئلة، على أني سأقوم بنشر باقي المحاور تباعا.
تقديم :
أعتقد جازما أن إعداد ورقة حول مواقف المهدي الناصري (الشرعية والسياسية) المعلنة في كتابه “نعت الغطريس”، خاصة من التهامي الكلاوي ومن مبارك التوزونيني تجاوز حدود الترف العلمي، ليفرض نفسه فرضا على كل باحث في سيرة الرجل وفي شخصيته، وعلى كل مهتم بتاريخ تافيلالت الكبرى المعاصر خاصة إبان بداية تدخل الاستعمار الفرنسي، وتتبدى هذه الضرورة من خلال استحضار جملة من النقط التي تَأَتَّى لي جمعها منذ بدأت البحث في تراث الرجل العلمي الذي لم ينفصل قط عن سيرته ومحطات حياته، هذه المحطات التي تستدعي كل منها وقفات للتساؤل والبحث وتسليط الأضواء الكاشفة، ويمكن إجمال هذه النقط في :
_ كل الذين ترجموا للرجل، وتناولوا سيرته اعتمدوا أساسا على كتاب “نعت الغطريس” الذي يعد أهم وأشهر ما خلف الرجل، ومعلوم أنه عَبَّرَ من خلاله عن موقفه من التوزونيني ومن حركته بكامل الوضوح والجرأة والمسؤولية الشرعية والسياسية والاجتماعية، وعبر في مقابل ذلك بشكل واضح وصريح عن موالاته للتهامي الكلاوي، بل يلاحظ القارئ أنه ضمن كتابه قصائد عديدة في مدحه والإشادة بمناقبه وفضائله. فلا غرابة إذا أن يصنف الرجل في خانة المتزلفين للاستعمار وصنائع الاستعمار(1)، ولا أن ينعت بأنه “شوه حوادث بلاده أيام استعمار الفرنسيين خدمة لهم.”(2)، وهي أحكام تتسم بغير قليل من القسوة والجور والعجلة، لأسباب كثيرة أذكر منها :
_ أنها لم تستجمع كل أوراق القضية _إن صح لنا أن نعدها قضية_ واكتفت بما ورد في الكتاب للحكم على صاحبه .
_ أنها غيبت أطرافا فاعلة قوية ما كان ينبغي أن تغيب في مثل هكذا نقاش، لأن لكل منها اليد الطولى في صناعة الأحداث، وفي توجيه دفتها، والـتأثير في مساراتها: المستعمر الفرنسي الذي اقتحم البلاد باسم”الحماية”، المخزن المغربي ممثلا في السلطان المولى يوسف، التهامي الكلاوي، ومبارك بن الحسين التوزونيني .
_ أنها لم تسلط ما يكفي من الأضواء على شَخْصِيَتَيْ التهامي الكلاوي ومبارك بن الحسن التوزونيني، مع أن البحث في سيرتهما معا كفيل بالكشف عن كثير من الحقائق التي تساعد كثيرا في الفهم الشرعي والسياسي لمواقف الناصري .
_ أن أصحابها لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتنقيب أكثر في حياة الرجل الخاصة، ولا في ما كتبه بعد مرحلة “نعت الغطريس”، وهذا ما أود الكشف عنه والحديث عنه في هذه الورقة .
أؤكد أني تجاوزت _ بحمد الله _ مرحلة الحماس العاطفي في الحديث عن الرجل، بعدما كلفني ذلك الكثير من الانتقادات والخصومات التي كنت في غنى عنها لو أنني وجدت من يحسن توجيهي وإرشادي، فبعدما شب عمرو عن الطوق لا أجد غضاضة في الاعتذار لكل من أسأت الأدب في الحديث إليهم أو عنهم بدافع غيرة عائلية، وانفعال ذاتي، وإذا كان المرحوم والدي قد قادته غيرته وتأثره الشديد لما قيل عن المهدي الناصري لملاقاة العلامة المرحوم المختار السوسي(3) ، فأنا أؤكد أن الواجب العلمي والتاريخي يفرض طرح مواقف الرجل للنقاش بكامل الموضوعية والشفافية والوضوح، بعيدا عن كل تعصب أو تحيز أو هجوم أو هجوم مضاد، مادام الهدف هو “محاولة فهم” موقف الرجل، بعيدا عن هوس الأحكام الجاهزة، وعن أجواء المحاكمات المتسرعة الجائرة، لأني أعتقد جازما أن المهدي الناصري يبقى _في آخر المطاف_ العالم الموسوعي الذي وشم لحظته التاريخية بعطاءاته العلمية والتربوية وتأثيره الاجتماعي قبل أن يكون صاحب موقف سياسي يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ .
تسعى هذه الورقة للإجابة عن أسئلة ثلاثة :
_ ما الذي وسم العلاقة بين الناصري والكلاوي بعد مرحلة “نعت الغطريس” ؟
_ ما الغاية التي كان التوزونيني يسعى إلى بلوغها من خلال الحركة التي قادها في تافيلالت : مقاومة المستعمر، أم الزحف نحو كرسي الإمارة والسلطة ؟
_ ماذا عن موقف العلماء (الموقف الشرعي) من بيعة السلطان المولى يوسف، وماذا عن موقفهم من حركة التوزونيني ؟
(1)_(المعسول) 16/271 .
(2)_ (الأعلام) 7/314 .
(3)_ أشار المختار السوسي إلى حدث زيارة الوالد له قائلا: “وقد زارني ولد له فرأيته رجلا حسنا”، انظر: (المعسول)16/305.
المصدر : https://tinghir.info/?p=19087