المعيش اليومي وما يرتبط به من مشغولات يدوية بمنطقة الجنوب الشرقي شكل حقلا خصبا لبروز موروث ثقافي واجتماعي راسخ في الذاكرة الجماعية مصدره المخيال الشعبي.
فالملاحظ أن الطقوس الاحتفالية والأهازيج والرموز الثقافية المرتبطة بالمشغولات اليدوية بالمنطقة مثل “الرحى” و”أقراب نومغار” و”تشكالت” يمتزج فيها الفكر بالسلوك والحقيقة بالخرافة، كما تختلط فيها الدوافع والبواعث بالغايات والأهداف، ما طبع الثقافة الشعبية بالمنطقة وتراثها ومنحها ميزة خاصة.
وإذا كانت هذه الطقوس والعادات باعتبارها تراثا شفهيا تأخذ أشكالا وألوانا متعددة حسب الموروث الثقافي والاجتماعي لكل جهة ومنطقة فإنها بمنطقة الجنوب الشرقي تكاد تتشابه على الرغم من اختلاف المكون الثقافي وعامل الوسط.
وفي هذا الإطار، أبرز الباحث في التراث المحلي زايد جرو أن هذه المشغولات تحمل طقوسا مرة فردية ومرات أخرى احتفالية جماعية، ولا يمكن الحفاظ على رمزيتها على الامتداد الزمني إلا بالتدوين بعد قراءة أيقوناتها قراءة إبستمولوجية عالمة، فمن كان منها رمزيا معنويا وجب حفظه بالتدوين وتلقينه للناشئة عبر مقررات دراسية تحفظ تاريخ هذا الموروث، ومن كان منها ماديا يجب حفظه في المتاحف ليشكل مادة للباحثين.
وأكد جرو، الذي تعددت اهتماماته من العمل الجمعوي إلى الحقل الإعلامي والتربوي، أن هذا الموروث الثقافي له حضوره الوازن بتافيلالت والجنوب الشرقي الواحي عموما، ورمزيته تتجاوز المغلق الضيق إلى المنفتح الشاسع.
من هنا، يبرز الباحث، اكتسبت رمزية “الرحى”، التي تعد من اللوازم المنزلية الأساسية في تحضير العديد من المواد في المطبخ إذ بها تدق الحناء والبن وبعض التوابل والأعشاب الطبية ونحوها، من التأويلات والقراءات المتنوعة للساكنة المحلية وأغلبها أقرب إلى الميثولوجي منه إلى العقلاني، كما أنها تنهل، بشكل كبير، من الخرافة والوسط الشعبي اللذين أطرا طابع التفكير في المنطقة حيث تستحضر الجوانب الغيبية أكثر من استحضار الأمور العقلانية.
وقد نشأت بين “الرحى” والمرأة بالمنطقة علاقة حميمة وذات أبعاد اجتماعية ونفسية ووجدانية مختلفة، فالدوران الرتيب المستمر لها وهي تطحن أوحى للمرأة بصور شعرية وأمثال وأوصاف وتعابير شعبية، وربما تمثلت المرأة حال حياتها وعزلتها في البيت والدوران الرتيب الممل للأيام والليالي عليها كحال ما تطحنه الرحى وتحيله إلى دقيق، فكانت مصدرا للإلهام وفرصة لتحريك العواطف والوجدان الشعبي للتعبير عن مشاعر إنسانية مختزنة في أغان شجية خاصة.
الرحى أو “أزرك” باللغة الأمازيغية، يضيف السيد جرو، من الوسائل الحضارية التقليدية التي لم يكن يخلو منها بيت من بيوت المنطقة تجدها في البهو أو في مكان محفوظ خاص، لأنها من الوسائل التي يسرت عيش الساكنة، ولا يجب نقلها من مكانها لبيت آخر ففي ذلك نقل للبركة للبيت المستقبل وهدم عماد البيت الذي نقلت منه حسب المعتقد.
هذه الآلة التقليدية وشمت في ذاكرة الجنوب الشرقي ولعقود بالبساطة والعيش الجماعي المشترك لأهل المنطقة المؤسس على قيم التعاون والتفاني في خدمة الجماعة، يؤكد الباحث، فهي تحمل رموزا متعددة، “فهي الفرج بعد الضيق، والغنى بعد الفقر، ووجودها في الدار التي لم تجرَ لهم بها عادة، دال على الأنكاد والغلبة والخصام، فإن طحنت قمحاً أو شعيراً، أو ما فيه نفع دل ذلك على اليسر والخير، وإن دارت بصوتها حف الرزق المكان وشُفي الأهل من الأمراض، وإن دارت بلا حنطة فذاك تعب، وإن طحنت فيها المرأة خبزاً أو لحماً خلسة دل ذلك على الرغبة في تدمير أهل البيت انتقاما ولا يجب للمرأة الراغبة في الزواج أن تمر بين طرفي الرحى وهي مفتوحة” ومن المعتقدات المرتبطة بالرحى، يقول الباحث، أنها إن دارت معوجة سيرتفع السعر، وإن لوى الأطفال عصاها الصغيرة فذلك دلالة على قرب آجال صاحبتها، أما إذا انكسرت فصاحب الرحى سيتوفاه الآجل قريبا، ومن اشترى رحى تزوج إن كان عازباً، أو زوّج ابنه أو ابنته قريبا، أو سافر إن كان من أهل السفر، والعريس حين يطحن بمعية عروسه قبل الزفاف فذلك أمل في تيسير العسير، وتمني الغيث والفرج واستمرار الحياة بالعطاء والذرية المعطاء، وهي أمور اعتقادية سارية ومتداولة بين الناس على مر الأزمان كالحِكم.
وأثناء الطحن لا يجب أن يحف المكان الصمت العميق المخيف، بل يجب أن تردد النساء بعض الأهازيج التي من شأنها أن تخفف عنهن عناء العمل، وعادة ما تحمل هذه الأهازيج إشارات نحو موضوع ما وتختلف من أداء فردي إلى أداء جماعي تشترك فيه عدة نسوة وهي بين الرضا والقناعة والغزل والحِكم، وكم تتمنى النساء والقوم ألا تدور الأيام كدائرة الرحى.
ومن بين هذه المشغولات أيضا “أقراب نومغار” المصنوع من جلد متين لونه ترابي، مائل إلى الصفرة، جديد أو متآكل حسب تعميره في الزمان أو حسب ما تجود به الأيام، وهو من الأسرار والكنوز الخاصة التي لا يمكن حتى لشريكة المحن “تامغارت” أن تتجرأ على فتحه، وإذا قاد القدر أحدا لاقتحام خلوته فسيندهش من محتوياته، فيه مقص أظافر صدئ وإبرة وأجزاء من خيوط غريبة اللون شديدة الحمرة والزرقة.
قد تكون فيه أيضا أوراق ممزقة لا تستطيع قراءتها، وبعض النقود التي لا تنفع، تجد فيه كذلك شفرة للحلاقة يحلق بها الرجل ذقنه طبعا دون ماء إذا اقتضت الأحوال، وبعض قطع الحلوى التي علتها قشرة سوداء من الأوساخ يفرح بها الأطفال إذا ولج بيتا على حين غرة، لكن الشيء الجميل الذي ينال الإعجاب فيه هي الهيبة التي تحس بها أثناء الاقتراب منه، فهي هيبة لا تقل عن هيبة المس بعمامة الشيخ.
كان “أقراب”، الذي يرمز عند البعض إلى علو شأن صاحبه ومكانته الاجتماعية، كما يقول جرو في صورة تعبيرية، من نصيب الورثة في انتظار بيعه لسائح يدفع أكثر أو لسائح يعشق جمع التحف والصور، وتبدأ رحلة “أقراب” المسكين في رحلة تحفها المخاطر يبكي أيام نحسه الجديدة.
واعتبر الباحث أن الوقوف عند رمزية هذه المشغولات وغيرها هو “رد الاعتبار للأنا في علاقتها بالآخر الذي يسعى جاهدا لطمس كل معالمنا“، كما أن إحياء هذه الرموز فيه تشبث بالهوية والانتماء و”قد يزيدنا فخرا عندما نلقن تراثنا لأجيالنا عوض أن نكون عالمين لتراث الآخر ونحن جاهلون لتراثنا“.
المصدر : https://tinghir.info/?p=18771