سُكّان مدينة قلعة مكونة محافظون بطبعهم، لكنْ، وسط هذا المجتمع المحافظ يوجدُ حيُّ يضمُّ بيوتا كثيرة للدّعارة، تبيعُ فيها بائعات الهوى الجنسَ لشباب المدينة وضواحيها والوافدين عليْها في واضحة النهار، بأثمنة بخْسة، قد لا تتعدّى عشرين درهما.
دعارة في وضَح النهار
في الماضي كانَ هذا الحيُّ يُسمّى درب كناوة، ثم بُدّل اسمهُ وصار الدرب الجديد، والآن يُسمّى حي السلام2، لكنَّ الحيّ معروفٌ لدى ساكنة المدينة باسم “الدّْرب”، وهو اسمٌ مقترن بالدعارة، وحينَ يلتقي شخصان يعرفان بعضهما داخل هذا الحيّ غالبا ما يُبادر أحدهما بطرح سؤال “ماذا تفعلُ هنا؟”، متبوع بابتسامة تحمل أكثر من علامة استفهام.
حينَ زُرنا “حيَّ الدعارة” بقلعة مكونة، يوم الأحد بعدَ العصر، كانَ ثمّة عشرات الشبان يُرابضون أمامَ بيوت البغاء، تشرئبُّ أعناقهم إلى نوافذ البيوت الطينية المُسيّجة حيثُ تُطلُّ العاهرات بوجوه مَطليّة بمساحيق فاقعة، وغالبا ما يرتدينَ ثيابَ نوْمٍ تُبرزُ الجزءَ العلوي من صُدورهن.
في مدخل أحد الأزقّة بادرتْنا إحداهنّ وكانت تطلّ من النافذة بالحديث، وحين أخبرناها أننا نريد فقط معلومات حوْل ظروفهنّ، وسألناها عن سبب اشتغالها في الدعارة، ردّت باقتضاب: “هادشي ماشي حْنا اللي خْتاريناه بخاطرنا، الوقت بْزّزات علينا هادشي”، قبل أن تلوح سيّارة في منعطف الزقاق حَسِبَتْها سيّارةَ مسؤولٍ، وطلبتْ منا أن ننصرف، ثم اختفتْ من الشبّاك.
يبْدو الشبّان الراغبون في قضاء لحظات متعة بين أحضان العاهرات غير مكترثين بالعابرين، وحينَ يحين “دوْرُ” أحدهم، يدلفُ إلى بيْت الدعارة؛ أغلبُ البيوت تتوسّطها شبابيك منْها تُطلُّ العاهرات لـ”التفاوض” مع الزبون قبْل السماح له بالدخول.
“بيوت موقرة”
في “حيّ الدعارة” بمدينة قلعة مكونة تعمدُ الأسر القاطنة بالحيّ إلى كتابة عبارة “دار موقرة”، أو “ممنوع الدقان.. دار محترمة”، تفاديا للخلْط بينها وبين بيوت الدعارة، فيما تحملُ واجهات بيوت أخرى عبارة “للبيع”.
ويشرح محمد أيت شطون، فاعل جمعوي بقلعة مكونة، أنَّ السبب الذي دفعَ عددا من سكّان الحيّ إلى عرْض بيوتهم للبيع هوَ الإسهام في تطهير الحيّ من بيوت الدعارة، بعْد فشل السلطات المحلّية في القيام بهذه المهمّة، وذلك بكرائها لأُسر بَدل إيجارها للعاهرات.
لكنَّ هذه المبادرة، بحسب ما عايَنّا، لن تثمر نتائج، نظرا للعدد الكبير لبيوت الدعارة المنتشرة في “الدرب”، والتي يؤجّرها مُلّاكها للعاهرات، ويوضّح أيت شطون أنَّ المُؤجّرين، وأغلبهم ينتمي إلى الطبقة الفقيرة، يبرّرون ذلك بحاجتهم إلى المال، لكنه يستدرك “هذا المبرّر غير مقبول”.
المثير في “حيّ الدعارة” بمدينة قلعة مكونة، هو أنَّ السكّان يتعايشون “في سلام” مع العاهرات، بلْ إنَّ صاحبَ “مجبنة” في قلب الحيّ اعتبر الأمر “عاديا”، طالما أنّ العاهرات لا يُثرنَ مشاكل مع جيرانهنّ، مُضيفا، وهو يربت على كتف أحد طفليْه اللذين يشتغلان معه: “يْضبّرو رّاسهم”.
وحينَ سألناه ما إذا كانَ يخشى أن يؤثّر ترعرع أطفاله في حيّ تنتشر فيه الدعارة على تربيتهم، أجابَ بالنفي، موضحا أنَّ العاهرات لا يخرجنَ إلى الشارع؛ واستطرد، كما لو ليُبْعد تهمة “العار” عن حيّه: “الدعارة منتشرة في كل المدن، وما يوجد في الدار البيضاء وأكادير ومراكش أفظع مما يقع هنا”.
“إحداث مفوضية الأمن هو الحلّ”
لكنَّ هذا الرأي لا يعني أنَّ تواجُدَ حيّ للدعارة لا يُثير انزعاج سكان مدينة قلعة مكونة، فمنذ سنوات يبذل أعضاء “جمعية حي السلام للتنمية والثقافة” جهودا ويترافعون لدى السلطات المحلّية للمطالبة بتطهير الحيّ، حيثُ يوجد مقرها، من دور الدعارة، لكنّ هذا المطلب لم يجد صدىً لدى السلطات إلى حدّ الآن.
ويوضّح الكاتب العام للجمعية، محمد أيت شطون، أنّ مسؤولي الجمعية عقدوا اجتماعات مع باشا مدينة قلعة مكونة الذي اتّصل بوكيل الملك لدى محكمة ورزازات، لكنَّ الذي يعوق عملية تطهير الحي من دور الدعارة، يضيف المتحدث، بحسب المعلومات التي أفادهم بها المسؤولون المحليون، هو غياب حالات التلبّس.
لكنَّ هذا التعليل بالنسبة لمحمد أيت شطون ليسَ كافيا، ولا يُمكن أن يكون عائقا يحول دونَ تطهير مدينة قلعة مكونة من دور الدعارة. ففي مدينة تنغير، التي لا تبْعُد سوى بحوالي 70 كيلومترا عن قلعة مكونة، جرى تطهير حيّ يُسمّى “أقدار” من جميع أوكار الدعارة التي كانتْ موجودة به.
ويُضيف المتحدّث أنَّ الأمر مرتبط، في نهاية المطاف، بتوفّر إرادة لدى السلطات. ففي تنغير توجدُ عمالة ومفوّضية شرطة، بيْنما يتولّى استتباب الأمن في قلعة مكونة عناصر الدرك الملكي الذين يشتغلون في مجال ترابي شاسع، يمتدّ إلى حدود بومالن، وورزازات وأزيلال.
شساعة المجال الترابي الذي تشتغل فيه عناصر الدرك الملكي، وقلة الموارد البشرية، يجعل مهمّة مراقبة الأحياء التي تضمّ بيوت الدعارة صعبة، “هُم (عناصر الدرك) أيضا، يقولون لا حوْل لنا ولا قوة”، يقول محمد أيت شطون، مضيفا أنّ الحلَّ هو الاستجابة لمطلب السكّان بإحداث مفوّضية للشرطة في قلعة مكونة.
فضلا عنْ مطلب تطهير المدينة من أوكار الدعارة، تُطالبُ جمعية حي السلام للتنمية والثقافة بمحاربة “معامل” صناعة ماء الحياة “الماحْيا”، المنتشرة في قلعة مكونة بكثرة. فعلى الرغم من أنّ عناصر الدرك قامت بحملة تمشيط سنة 2012، وألقت القبض على أحد أكبر مروّجي هذه المادّة المسكّرة، إلا أنّ صناعتها لم تتوقّف.
لا يُعرف بالضبط عدد العاهرات اللواتي يشتغلن في دور الدعارة في حيّ “الدّرب” بقلعة مكونة، ففي كلّ بيْت ثمّة عدد من العاهرات يشتغلنَ تحتَ إمرة “باطرونة”. هذه الأخيرة لا تكتفي فقط باستقبال الزبناء، بلْ “تُرسل” العاهرات اللواتي يشتغل تحتَ إمرتها إلى بيوت الزبناء إذا تلقّت “طلبات”.
وفي ظلّ غيابِ أيّ تدخّل حاسم من طرف السلطات المحليّة لتطهير حي السلام2 بمدينة قلعة مكونة من دور البغاء، فإنّ هذا الحيّ تختلط فيه السياسة بالجنس؛ إذ يُعتبرُ مصدرا مهمّا للأصوات في الانتخابات بالنسبة للسياسيين، بحسب إفادة أحد أبناء المدينة، مشيرا إلى أنَّ هناك سياسيين لا يطمعون فقط في الحصول على أصوات العاهرات، بل يستغلونّهن للقيام بحملات انتخابية لفائدتهم.
المصدر : https://tinghir.info/?p=18587