الرحلة من “تنغير” الى “مكونة” لا تساوي جناح بعوضة، وبالتالي فمجرد التفكير في موسم الورود، يجعل جسدك محمُوما وتعتريك رعشة خاصة. احتفال هذه السنة، احتفال مميز وفريد، سيكون الهرج والمرج، الورد والجمال، كل شيء سينثر على ضفاف وادي “أمكون” العظيم. بهذا الكلام، أغرتنا وسائل الإعلام وجعلت قلوبنا تسيل طمعا في نيل بعض هذا النعيـــم.
أول أمس كان الافتتاح، الجميع تفتح كأزهار الورد نفسها. الزائرون التائهون فرحا، في انتشاء بالمكان والجمال، جموع غفيرة تتماوج فوق أديم قلعة مكونة. أطواق من الورد والأزهار تكبل تزيينا أعناق الناس وقلوبهم. مكبرات صوت وكلمات رسمية وغير رسمية ، معارض وأنشطة متنوعة بين الفروسية وندوات شعر وغيرها. إننا فعلا بين أحضان موسم قديم في عمره، يناهز نصف قرن، لكنه جديد وشاب ب”ستيل” جديد، وتنظيم محكم.
بدأت زيارتنا للمكان منسابة وسلسة، أريج الورد المنبعث من قلعة مكونة يسم الوجوه بكثير من الحبور والانشراح. نحن على مسافة قريبة من الموسم .الطبيعة خلابة وأسراب من الناس والسيارات تنثال تباعا نحو قلب الاحتفال العظيم . نظرت إلى رفيقي وهو يبتسم لابتسامات الوجوه العابرة بالمكان وراء زجاج السيارة، فأحسست فعلا أن هذا المكان يملك سلطة ما، تقهر في النفس الاغتراب والتيــــــه، وتدفعه إلى متاهات الحياة والجلال، وكذا الإحساس بالكينونة. قبل توقف السيارة بقليل رمقت بعيدا نحو الأفق، نحو جبال الجنوب الشرقي الشامخة، وهي تراقب بعزتها الاحتفال بجوف الغدير، فتيقنت حينها أن جميلات الورد لم يخطئن حقا إذ قطعن أيديهن، وخلقن هنا بين أحضان هذا الوادي الوسيم.
تصافحنا مع المكان، ولفحتنا نسمات دفئه، خطونا خطوات خجولة فاعترضت سبيل نظرنا لافتة عريضة تشع تحت وهج شمس هذا النهار الهادر. كلمات الترحيب بالزوار والوافدين بارزة لامعة ، نظرات الناس ودودة ومضيافة ، كل شيء يدعوك إلى الانصهار في الاحتفال . لهذا قصدنا المقهى المطل على جانب كبير من طقوس الاحتفال. ارتشفنا بعضا من رضاب هذه الأرض التليـــدة، وخط رفيقي أولى كلماته المرتجفة التي أغارت عليها بغتة نسمات العليل القادم من جهة جنان الوادي ، فأفقدتها الوداعة المعهودة . وقتئذ قال لي : أشك في قدرتي على كتابة حرف ، صديقي، ففتنة الاحتفال تفقدني صوابي في الكتابة ، ابتسم بعدها ونحن نحزم حقيبتينا في سير حثيث نحو الصخب الهادربجوف المدينة.
التلاشي بين ثنايا الاحتفال بكل طقوسه وفضاءاته، تذكرني بجزء من إحساس عشته أيام موسم الخطوبة باملشيل. رغم كون الاحتفال هنا خاص بالجمال والورد واللون الوردي المشحون بالحب والوئام، والاحتفال هناك بأعالي املشيل خاص بالخصب والحياة ، فان بينهما روابط وثيــــقة ، يعكسها بشكل قوي هذا البريق الصافي الذي تنداح به العيون والشفاه. انه احتفال وردي يسر الناظرين ويبعث في النفس مزيدا من الانتشاء والحبور.
بعد جولات وصولات في متفرقات الموسم ومعارضه، استوقفنا الراحلة جنب رصيف مثخن بمنتوجات أمازيغية محلية، فتيفيناغ تستحوذ على الاحتفال وتسود فيه بلا منازع. للخصوصية المحلية، إذن، بحمولتها التاريخية الثقافية وزنها الوازن في موسم الورود. أمطنا اللثام في جلستنا هاته لحديث القلوب والجفون والعقول، فاكتشفنا في مقابلة مع أحد العارضين أن احتفال الورود بقلعة مكونة مزار كبيـــر، فيه تقضى حوائج ومآرب شتى، تتنوع وتختلف بين التبضع بما حلى من منتجات الورد، ولذ من معروضات الثقافة الامازيغية المحلية ، وبين قضاء وطر في أمر زواج أو عمل أو سياحة، فهو موسم بوظائف متعددة يخدم القادم إليه بكل حفاوة وترحاب ، تماما كصديقي هذا، الذي لم يرفع آلة تصويره إلا لماما، بسبب انهماكه في رفع آلة بصره عاليا متفرسا الوجوه المليحة، التي يتمايل بها المكان يمينا ويسارا.
العقربان الكبيران في الساعة يلامسان الرقم ثلاثة، إنها وقت القيلولة، حرارة الشمس تذيب أحاسيس الناس وتدفعهم إلى المزيد من التودد و الاقتراب. قصدنا معرض المنتوجات المحلية في الصالة المغطاة. الناس في حركة دؤوب. اللحظات الأخيرة دائما تحبل بالصخب وعنفوان الرياح، لهذا لم ينتظر رفيقي طويلا ليسألني : لماذا في ذيل كل المواسم، في كل أنحاء البلد تكون الرياح هوجاء وتكثر الزوابع ؟؟؟ قبل أن أرد عليه، تقهقرت بي الذاكرة بعيــــــــــــدا نحو طفولتي بالبلدة وأيام موسمها السنوي وما فيه من زوابع وتوابع، لحظات نقطع فيها أميالا كثيرة حتى نحظى بفرصة جمع أكبر قدر ممكن من سدادات المشروبات الغازية، التي خلفها الناس وراءهم بعد الموسم. استدرت إليه، وأنا أبصر وجهي منعكسا في زجاج نظاراته، فهمست إليه: علينا الرحيل يا حبيبي .انها اشارة من السماء الى ضرورة المغادرة وهي غير قابلة لأي تأويل.
قبل الأصيل بقليل، ولجنا القاعة المكتظة بالزائرين، أحسست وأنا أتهجى الوجوه المتماوجة بين بساط قاعات العرض، أن شيئا ما يشد الناس هنا عن المغادرة، اللون الوردي المستعمر للمكان يغري حقا بالمزيد من الصمود والوصال. والمساء الجميل بنسماته العامرة بأريج الحقول المحاذية للمعرض، يذكر الزوار أمثالنا، أن حدث احتفال الورود، يستعصي على النسيان، انه إغراء سنوي لا تهضمه معدة الذاكرة حتى يتبدى من جديد، ولهذا خففنا الوطء وهجرنا المكان كرها ونفوسنا طامعة متلهفة نحو احتفال أخر .
وبينما نحن في الطريق صوب تنغير، تذكرت بقوة بيت الحمداني :بلادي وإن جارت علي عزيزة **** وأهلي وإن ضنوا علي كرام، فكدت اختنق من فرط ثقل فراق “قلعة مكونة” واحتفالها، رمقت مرة أخرى الجبال الشاهقة المطلة على الوادي العظيم، وأنا في المكان نفسه الذي بصرتها في إقبالنا، فرأيتها مبتسمة ناظرة نحو عيون ملكة جمال الورود التي أرخت أغراض زينتها في حضن الوادي، كاشفة عن ساقيها استعدادا لبدء موسم جمال جديـــــــد.
المصدر : https://tinghir.info/?p=18383