مؤلم جدا ما آلت إليه أوضاع منظومتنا التعليمية من ترد، جراء ما لحقها من ارتجال وسوء التدبير، فما نكاد نفتح ورشا للإصلاح حتى ننتقل إلى آخر، في سلسلة متلاحقة من العبث وهدر المال العام، كان آخر حلقاتها المخطط الاستعجالي، الذي استنزف أكثر من 33 مليار درهم، دون أن نستطيع تحديد مسار واضح، للعبور نحو نهضة تربوية وتنويرية، تعتمد العقلانية والديمقراطية التشاركية…
فمنذ حصول المغرب على الاستقلال، ومنظومة التربية والتكوين تعاني بشدة من اختلالات مزمنة، لغياب الإرادة السياسية الحقيقية. جرب القائمون على الشأن التعليمي، الكثير من الاقتراحات والنماذج، ووضعوا عدة تصورات، لكنهم لم يفلحوا في إيجاد الوصفة السحرية لإقامة نظام طموح ومتكامل، يكون في مستوى تطلعات الجماهير الشعبية، يلبي حاجيات البلاد من الموارد البشرية، ويساهم في بناء تنمية اجتماعية واقتصادية.
وكان مطلب التعريب من بين أبرز شعارات مرحلة ما بعد الاستقلال، باعتباره أحد أهم المبادئ الأربعة للحركة الوطنية (المغربة، التعميم، التعريب والمجانية)، والهاجس الأكبر لترسيخ الهوية اللغوية، والرفع من قدرة تنافسيتها مع باقي اللغات الأجنبية. واستمر الاعتقاد سائدا بكون تعريب المواد الدراسية، هو المنفذ الوحيد نحو تعميق الهوية وإضفاء طابع الندية والنهوض بمنظومتنا التعليمية، انطلاقا من مبررات إيديولوجية تجعل اللغة العربية أرقى اللغات وأفضلها.
وبما أن الشروط لم تكن مهيأة لاعتماد التعريب في التعليم العالي، وللحفاظ على مصلحة المتعلم، فإنه تقرر تخصيص ثلاث حصص أسبوعية للأنشطة بالفرنسية، في المواد العلمية بالمستويات الثلاثة: الجذع المشترك والسنتين الأولى والثانية من سلك البكالوريا، في انتظار تخرج أساتذة مادة الترجمة. وإثر تنظيم مباراة خاصة، فتحت أبواب المراكز التربوية الجهوية في وجه المقبولين للاستفادة من تكوين أكاديمي. وهكذا انطلق تدريس الترجمة بشكل تدريجي، ابتداء من الموسم الدراسي: 1990/1989.
ولإظهار حسن نواياهم ومدى إصرارهم على إنجاح هذا التوجه، في تحقيق الجودة والارتقاء بمستوى المتعلمين، لم يقف المسؤولون عند حدود التكوين، بل تجاوزوه إلى مستوى تأليف معاجم علمية مزدوجة، بعد أن عمد معهد التعريب تحت إشراف المرحوم أحمد الأخضر غزال، إلى إنجاز بحوث ودراسات قيمة حول المصطلحات العلمية، وتم إدراج الترجمة ضمن مواد الامتحانات الإشهادية (الجهوي بالنسبة للسنة الأولى بكالوريا، والوطني للمترشحين الأحرار)، تلاه تهييء أطر المراقبة التربوية، وإصدار كتاب مدرسي…
ويتأسس تدريس مادة الترجمة كما هو حال باقي المواد، على الاختيارات والتوجيهات التربوية، المحددة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، بغرض إعداد تلميذ الثانوي التأهيلي إعدادا جيدا، ليكون متشبعا بروح المواطنة وقيم التسامح وحرية التعبير، وقادرا على تلقي الخطاب العلمي باللغتين العربية والفرنسية، من حيث المصطلحات والبحث والتوثيق ومعالجة النصوص. وتساهم الترجمة أيضا في تعزيز اللغة العربية وتدعيم اللغات الأجنبية والتدرب على التواصل بها، إغناء رصيده اللغوي والمعرفي، وتزويده بأدوات اشتغال كفيلة بتيسير سبل اكتساب حس تحليلي ونقدي، تتبع التطورات والمستجدات، واستيعاب الأفكار والقضايا العلمية والتقنية والإنسانية، وامتلاك القدرة على توظيفها في بناء وإعادة صياغة خطاب علمي دقيق وسليم. والأهم من ذلك كله، هو الاستئناس بمنهجية الترجمة من اللغة العربية وإليها، ومقاربة النصوص والوثائق العلمية… مما قد يفيده بعد نيل شهادة البكالوريا، في تلقي دراساته العليا بيسر، والالتحاق بسوق الشغل في ظروف ملائمة…
بيد أنه مع مرور السنوات، بدأت جذوة الحماس تخبو في صدور أصحاب القرار، لتفقد مادة الترجمة بريقها، وبدا أن هناك شيئا ما يجري وراء حجاب دون تبين ملامح من يقف خلفه، متجليا في إيقاف التكوين قبل حلول سنة 2000، والوقوف عند فوج واحد من المفتشين لا يتجاوز عددهم 16 مراقبا، سحب المادة من الامتحانات الإشهادية، تهميش حصص الأنشطة العلمية في عديد الثانويات، التي لا تتوفر على مدرسي مادة الترجمة، ثم حذف هذه الأخيرة من الجذع المشترك، فتقليص عدد الحصص الأسبوعية من 3 إلى 2، كما هو الشأن بالنسبة للغة الفرنسية من 6 إلى 4 ومواد أخرى، قصد سد الخصاص المهول في الموارد البشرية، بدل توظيف المعطلين والحد من ظاهرة الاكتظاظ، ثم الإبقاء عليها فقط بالسنة الختامية، ليصبح كثير من تلاميذ المؤسسات العمومية بدون أنشطة علمية ولا ترجمة، مما انعكس سلبا على مستوياتهم عند ولوج مؤسسات التعليم العالي، وعلى الأوضاع الاجتماعية والمادية لأساتذة المادة والمفتشين. فأين نحن من الجودة وتكافؤ الفرص بين التعليمين العام والخاص؟
وبالرغم مما أحدثته المذكرة الوزارية المتعلقة بفرنسة المواد العلمية، من ضجة كبرى وردود أفعال متباينة، لاسيما بعد الهجمة الشرسة التي قام بها رئيس الحكومة ابن كيران، ضد وزيره في التربية الوطنية والتكوين المهني رشيد بلمختار تحت أنظار نواب الأمة، فقد حسم الأمر في المجلس الوزاري المنعقد بمدينة العيون يوم 10 فبراير 2016 برئاسة الملك محمد السادس، وتمت المصادقة على تدريس المواد العلمية بالفرنسية ابتداء من الموسم الدراسي القادم: 2016/2017.
وها قد أغلق قوس الترجمة وانتهى حلم التعريب بالتعليم العالي، عملا بمقولة “كم حاجة قضيناها بتركها” المعتمدة في مناسبات عدة، فهل تم التفكير في ما سيسند لمدرسيها ومفتشيهم من مهام أخرى؟ وهل بإمكان الرؤية الاستراتيجية للإصلاح: 2015/2030 للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، إعادة الثقة للمغاربة في المدرسة العمومية، وتحقيق ما يتطلعون إليه من جودة وإنصاف، أم سيظل أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة، يتوارثون البؤس والرداءة؟
المصدر : https://tinghir.info/?p=17442