دخل ملف الصحراء المغربية منعطفا يصعب التكهن بمآلاته في ظل وضع إقليمي ودولي تقذف به حسابات السياسة والمصالح في كل الإتجاهات، و مناخ جيوسياسي عصي على الفهم الدقيق وعلى الإحاطة بكل عناصره وتفاصيله. تلويح الأمين العام للأمم المتحدة بشارة النصر وهو محاط بقياديين من البوليساريو بداية هذا الشهر، كانت رسالة قوية منه إلى النظام السياسي المغربي، وحتى تفهم رسالته بعمق، اعتبر الصحراء الغربية محتلة من طرف المغرب، مبتعدا عن أدبيات الأمم المتحدة التي تعتبرها صحراء متنازع عليها ومحط مسلسل للتسوية بدأ سريانه بموجب القرار 690 بتاريخ 29 أبريل 1991.
غير أن مفاتيح فهم نسبي لما يجري، توجد في مشروع مقترح أمريكي بتغيير قواعد اللعبة بالصحراء وذلك بتوسيع مهام المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان، وأيضا في تركيز الكثير من الجهات على ملف استغلال ثروات المنطقة المتنازع عليها لعل آخرها المحكمة الأوربية. المقترح الأمريكي لسنة 2013 وإن سحب، فإنه أصاب بشدة مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب يوم 11 أبريل 2007، والإتحاد الأوربي وإن قدم تطمينات للحكومة المغربية بخصوص مآلات علاقاته مع المغرب، فلا أحد يمكنه التكهن بنتائج صراع الأجنحة واللوبيات الأوربية وتأثيراتها على المغرب وملف وحدته الترابية، خصوصا وأن هناك توجه أمريكي – بريطاني لاقتراح مخطط لتسوية النزاع، يتجاوز الحكم الذاتي كما يقترحه المغرب ولا يصل إلى مستوى الإستقلال الذي تطالب به البوليساريو.
تماسك الجبهات الخارجية أصابه الكثير من التصدع، ونظامنا السياسي اليوم مطالب بتقوية وتحصين الجبهة الداخلية، من خلال استخلاص الدروس من كابوس البؤرة الثورية الذي نعيش نتائجه المرعبة منذ إعلان تأسيس جمهورية البوليساريو سنة 1976، و الإشتغال بكل صدق لجعل الصحراء المغربية بؤرة للديمقراطية تؤسس لمغرب الجهات الديمقراطي الموحد.
دروس من كابوس البؤرة الثورية
لم يكن الشباب الصحراوي المغربي المؤسس للبوليساريو انفصاليا بالضرورة، فالكثير من أعضاء القيادة كانوا طلبة مناضلين في الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، كان همهم الرئيسي تحرير الصحراء من المستعمر الإسباني والعيش في وطن حر ديمقراطي.
في المذكرة التي قدمها المرحوم الوالي مصطفى السيد، مؤسس البوليساريو، للاتحاديين المغاربة في يناير 1973، شدد الوالي على الارتباط التاريخي بين الصحراويين و باقي إخوانهم المغاربة ، و لم تتحدث وثيقة الوالي عن الانفصال السياسي و الجغرافي، أكثر من ذلك رد مؤسس الجبهة الشعبية على المشروع الاسباني المنادي بدولة مستقلة في الصحراء قائلا :” كما أن الشعار الاستعماري المغالط المستنزف لطاقتنا و هو توجيهنا إلى صديقنا بعد أن فرض علينا انه عدونا، و ذلك كي يستدرج هو منا و هو عدونا الأساسي و الأصلي و الرئيسي الأبدي، شعار انه يحمينا من الدول المجاورة، فانه كما قلنا شعار استعماري ليس إلا، إما في أصل الحقيقة فان الشعوب المجاورة لنا هي شعوب عربية افريقية إسلامية أصيلة، و مصيرنا هو مصيرها و هي صديق دائم لنا بل هي جزء منا، و هذه حقيقة خالدة خلود السماء فوق الأرض…”. ( الأيام الأسبوعية، العدد 453).
إن مضمون مذكرة الوالي مصطفى السيد عبارة عن نوايا حسنة لا يمكن إلا أن ترتاح لها الضمائر، لكن كيف تطورات الأوضاع في اتجاه طرح الانفصال، و تأسيس دويلة عربية عنصرية في خدمة نظامين شموليين الجزائري والليبي .
لقد كان بالإمكان أن تساهم الصحراء و نخبتها الشابة في تسريع وتيرة البناء الديمقراطي بالمغرب، و تحقيق حلم الشراكة المنصفة في الثروة و السلطة و القيم الذي أجهضته مكونات الحركة الوطنية التي دبرت ملف الاستقلال. كان ممكنا أن يساهم أبناء الصحراء في معركة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، و الانكباب بعد ذلك على استثمار التحرير للمساهمة من موقعهم في تحقيق التحرر الفردي و الجماعي لكل المغاربة في إطار مغرب ديمقراطي متعدد في ظل و حدته. كانت الصحراء و كان المغرب على موعد مع التاريخ، لو تضافر عاملين، الأول مرتبط بتفهم القوى السياسية و خصوصا اليسارية المعارضة لمواقف الشباب الصحراوي و لمضمون مذكرة الوالي، و العامل الثاني يتمثل في استمرار المرحوم الوالي و رفاقه في الالتزام بروح المذكرة التي كتبها سنة 1973 ، خصوصا و انه أكد في مذكرته على” أن تعاقب الدول و التنازع على السلطات و تناحر القبائل أدت إلى زيادة الهجرة لهذه المنطقة المحايدة الآمنة و اللجوء إليها من كل مغلوب، بل و في كثير من الأحيان الاعتصام بها من طرف الثائرين الذين يحضرون للانقضاض على أعدائهم، ونتيجة لهذه الهجرة المتعاقبة صوب الصحراء و المعاكسة أحيانا منها إلى المغرب فقد كانت المنطقة مرتبطة ارتباطا و وثيقا في غالب الأحيان بالسلطة القائمة في المغرب، و كثيرا ما كانت تمارس سلطات مركزية من قبل هذه الحكومات على سكان المنطقة، و خصوصا في حالات الحروب، فكانت كثير منها تجند سكان المنطقة لنصرتها، و يمكن القول أن المنطقة كانت إقليما مغربيا كسائر الأقاليم المغربية الأخرى”.
لقد استند الكثيرون في تحليلهم لتعقيدات ملف الصحراء إلى السياق التاريخي للتحول من حلم استكمال التحرير وخلق بؤرة ثورية في الصحراء لمواجهة استبداد الدولة المخزنية، إلى الدعوة للانفصال. فقد كانت الطبيعة الإستبدادية للنظام السياسي المغربي و أزماته الداخلية، مبررا استند إليه مساندو التحول من مشروع البؤرة الثورية إلى مخطط الانفصال. كما كانت للحرب الباردة و طموح كل من المعسكر الغربي و الشرقي للتموقع هنا و هناك، دورا كبيرا في تعقيد الوضع و الانتقال به من إشكال مغربي/مغربي أو مغاربي في أقصى الحدود إلى احد أشرس النزاعات الإقليمية و اعقدها.
مشروع البؤرة الديمقراطية
لقد استند الاستبداد بالمغرب منذ سرقة الإستقلال من الشعب المغربي، على إدارة مركزية وممركزة بيروقراطية، أنشئت ليس لخدمة المواطن بل لضبطه والتحكم فيه وإخضاعه واستغلاله. كما استند على تعددية سياسية متحكم فيها وعلى نخب اهتمت بمصالحها واقتسام كعكة الإستقلال أكثر من أي شيء آخر. وبعد ستة عقود من نضال القوى الديمقراطية المغربية، وبعد كل التحولات التي شهدتها بنيات المجتمع المغربي، لا زال المغرب في مفترق الطرق رغم بعض المكتسبات الدستورية والحقوقية. لقد كان تدبير ملف الصحراء من طرف الحكم، منذ المسيرة الخضراء، آلية من آليات التحكم وفرملة كل خطوات الدمقرطة، واليوم وبعد كل المياه التي سرت تحت الجسر، يمكن لتدبير ذكي لملف الصحراء أن يكون بؤرة لدمقرطة حقيقية لنظامنا السياسي، كشرط أساسي لتحصين الجبهة الداخلية وجعل الصحراء قضية شعب لا قضية نظام.
ولن يتحقق هذا الشرط إلا بتلازم مسارين، مسار التنزيل الفعلي لمبادرة الحكم الذاتي، في شقها المتعلق بالتزامات الدولة المغربية، دون انتظار مآل المفاوضات مع جبهة البوليساريو، ومسار بناء جهوية متقدمة قائمة على تنزيل ديمقراطي لدستور 2011 وعلى إرادة سياسية حقيقية للإنتقال إلى مرحلة تعاقد سياسي يؤسس لديمقراطية حقيقية.
المصدر : https://tinghir.info/?p=17058