يمكن الآن، وقد شارفت ولاية حكومة بنكيران على نهايتها، أن نستشف المشروع المجتمعي الحقيقي الذي يسعى بنكيران وحزبه إلى تحقيقيه. ولإدراك حقيقة هذا المشروع، ليس بالضرورة أن نسترجع كل تلك الشعارات البراقة – التي خدع بها ليس فقط البسطاء من الناس، بل حتى بعضا من “علية” القوم وكثيرا من الباحثين عن التغيير الديمقراطي بواسطة صناديق الاقتراع أو الباحثين فقط عن تغيير الوجوه على مستوى المشهد السياسي- ولا داعي لأن نستحضر البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية والبرنامج الحكومي الذي صادق عليه البرلمان؛ بل يكفينا أن ننظر إلى ما كنا عليه في 2011 وما أصبحنا عليه الآن.
فبالنظر إلى سقف مطالب حركة 20 فبراير (ملكية برلمانية، عدالة اجتماعية، كرامة، حرية…) والتفاعل الملكي الإيجابي والفوري مع مطالب الشارع (التفاعل الذي أسفر عن إصلاحات دستورية وانتخابات سابقة لأوانها)، وبالنظر إلى الوضع الحالي، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا، فإنه لا يمكن للمتتبع الموضوعي وللمتشبع بالقيم الديمقراطية والمؤمن بالعدالة الاجتماعية، إلا أن يشعر بخيبة الأمل بسبب ما نعيشه اليوم من ترد وتراجع على كل المستويات وفي كل المجالات، بحيث تعمل الحكومة الحالية برئاسة “بنكيران” على ضرب كل المكتسبات التي قدم من أجلها الشعب المغربي وقواه السياسية الديمقراطية التضحيات الجسام؛ وكأني به يريد العودة بنا إلى سنوات الجمر والرصاص (تقارير هيئة الإنصاف والمصالحة تعكس فظاعة وجسامة تلك التضحيات)؛ إذ يبدو أن ما مورس فيها من استبداد وظلم سياسي واجتماعي وحقوقي وغيره، يستهوي السيد “بنكيران” ويغذي لديه الحنين إلى ممارسات ذلك العهد البائد. وإلا، فما معنى كل هذا الإصرار على فرض الأمر الواقع، من خلال قرارات مخالفة للدستور(دستور فاتح يولويز 2011) ومتنكرة للأعراف الديمقراطية وفاقدة للسند القانوني ومهددة للسلم الاجتماعي؟
وإذا ما حاول المرء فهم الوضع الحالي، فسيجد نفسه أمام عدة أسئلة محيرة تتناسل في ذهنه، من قبيل: هل ينظر”بنكيران” بعيدا، فيرى ما لا يراه معارضو سياسته (وأنا منهم) فيما يخص مصلحة البلاد؟ وهل قراراته هي، بالفعل، كما يصفها أتباعه، شجاعة، أم أنها متهورة ومستهترة…؟ وأين يتجلى فيها ما يدعيه من “الحنو” على الفقراء والمستضعفين، وهي لا تزيد وضعهم إلا سوءا وتدهورا؟ وهل يدرك خطورة الوضع الاجتماعي الذي لا تزيده قراراته إلا ترديا ومنهجية تعامله مع الفرقاء إلا توترا وقابلية للانفجار؟ وهل هذه القرارات، هي، فعلا، قراراته أم هي مملاة عليه من جهة ما؟ وهل يعود سبب عناد الرجل وتعنته، في أمور يعترف فيها بالخطأ (ملف الأساتذة المتدربين، مثلا)، إلى طبيعة شخصيته أم إلى كونه مجرد منفذ ولا قدرة له للخروج على الخط المرسوم له؟ وغير ذلك من الأسئلة كثير.
وكيفما كان الحال، فيبدو أن السيد”بنكيران” قد وجد وصفة سحرية وسهلة للغاية (لأنها لا تحتاج إلى وجع الدماغ لإبداع الحلول الحقيقية وليست مكلفة من الناحية المالية؛ أما التكلفة الاجتماعية، وحتى الاقتصادية، فهي لا تهمه، على ما يبدو) لحل مشاكل البلاد؛ ويتعلق الأمر بمقولة “كم من حاجة قضيناها بتركها”.
بهذا المنطق، استهل “بنكيران” ولايته، بحيث تنكر لاستمرارية المرفق العمومي (محضر 20 يوليوز نموذجا). وبهذا المنطق تعامل ويتعامل مع الملفات الكبرى، بدءا من صندوق المقاصة، ووصولا إلى القطاعات الاجتماعية، وبالأخص قطاعي التعليم والصحة. وهكذا، قام، كأول خطوة هجومية على القدرة الشرائية للمواطنين، بإعدام الصندوق الذي كان يدعم المواد الاستهلاكية الأساسية بسبب ما يعتبره إرهاقا لميزانية الدولة. فعوض أن يتم البحث عن إصلاح الصندوق بشكل يضمن استمراره – نظرا للدور الاقتصادي والاجتماعي الحيوي الذي كان يلعبه والمتمثل، أساسا، في الحفاظ على القدرة الشرائية للمستهلكين؛ وذلك بضمان استقرار أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية- تم فقط، وبكل بساطة، إلغاؤه؛ وهو ما وجه ضربة موجعة للقدرة الشرائية للفئات الاجتماعية الهشة والفئات المتوسطة؛ أي السواد الأعظم من المواطنين.
ولم يكد “بنكيران” يصل إلى منتصف ولايته حتى أطلق تصريحا من الخطورة بمكان: لقد “حان الوقت، يقول الرجل، لكي ترفع الدولة يدها عن مجموعة من القطاعات الخدماتية، مثل الصحة والتعليم… وعلى الدولة ألا تشرف على كل شيء، وأن يقتصر دور الدولة على منح يد العون للقطاع الخاص الذي يريد الإشراف على هذه القطاعات”. وقد أكد، في الأسابيع الأخيرة، الوزير المنتدب المكلف بالشؤون العامة والحكامة (محمد الوفا)، رغبة الحكومة في التخلص من قطاعي التعليم والصحة لكونهما مكلِّفين جدا لخزينة الدولة.
والتخلي عن التعليم العمومي والصحة العمومية يعني إعدام الخدمة العمومية في هذين القطاعين الحيويين. فمن أراد أن يعلم أبناءه، عليه بالمدارس الخاصة، ومن أراد أن يداوي مريضه (أو مرضاه)، عليه بالعيادات الخاصة. فالدولة، في عهد “بنكيران”، لم تعد قادرة لا على تطوير أو تحسين ما هو موجود ولا حتى على الحفاظ عليه كما وجدته.
ودون طرح سؤال مدى أهلية القطاع الخاص واستعداده، سواء في مجال التعليم أو في مجال الصحة، لتقديم الخدمة المطلوبة وبالمستوى المطلوب، لا بد من التساؤل، من جهة، عن مصير أبناء الفقراء والمهمشين الذين يذرف عليهم “بنكيران” الكثير من دموع التماسيح (طمعا في أصواتهم)، ومن جهة أخرى، عن مصير مرضى هذه الفاءات، خاصة وأن الضربات الموجعة الموجهة إلى قدرتهم الشرائية لن تسمح لهم لا بتعليم أبنائهم ولا بمداواة مرضاهم.
فأي مشروع مجتمعي هذا الذي يريده لنا “بنكيران” وحكومته؟ فحسب منطق الأشياء، سيصبح المجتمع المغربي مقسما إلى أقلية ميسورة الحال أو على الأقل قادرة على مواجهة مصاريف تدريس الأبناء، وربما قادرة أيضا على زيارة الطبيب واقتناء الأدوية، وأغلبية ينخرها الجهل والمرض، بسبب قلة ذات اليد. هذا هو المشروع المجتمعي الذي يقدمه لنا “بنكيران”. وقد شرع في تنفيذه على أرض الواقع. فهو غير مبال لا بتردي الأوضاع العامة بالبلاد، اقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا وثقافيا… ولا بالغليان الاجتماعي الذي يتهدد استقرارها. فكل المؤشرات تدل على أن السيد “بنكيران” يسير بالمغرب، بفعل قراراته اللاشعبية، نحو المجهول؛ ذلك أن هذه القرارات تضرب السلم الاجتماعي في الصميم وتعمل على تقويض دعائم الاستقرار الذي تنعم به بلادنا؛ وهو ما يجعل حديثه الكثير عن هذه النعمة فاقدا للمصداقية، ويكاد أن يكون مجرد تقية لإخفاء أشياء، الله وحده أعلام بها.
خلاصة القول، لقد أكثر “بنكيران”: أكثر من الكذب على المغاربة وخداعهم بشعارات يعمل بعكسها، مثل شعار محاربة الفساد؛ وأكثر من الهجوم على المكتسبات وعلى القدرة الشرائية للمواطنين، مع ادعاء العكس؛ وأكثر من التعنت والتمادي في الخطأ (ملف الأساتذة المتدربين، نموذجا)؛ وأكثر من التنكيل في حق الحركات الاحتجاجية (القمع المادي والمعنوي)؛ وغير ذلك من الممارسات التي لا تزيد الوضع إلا تأزما وتعقيدا وقابلية للاشتعال. فهل بمثل هذا سنحافظ على الاستقرار الذي تنعم به بلادنا؟
المصدر : https://tinghir.info/?p=16932