كتبت هذا المقال وقلبي يعتصر ألما حزنا على كل ضحايا العنف الهمجي الذي تشهده الساحات الجامعية في “فترات معينة”، وأقول كل ضحايا العنف مهما كانت توجهاتهم، فكلهم أبناء وطن واحد، ويزداد الألم عندما يكون أغلب ضحايا العنف الأسود من أبناء المغرب العميق، الذين كانوا منذ الأمس ضحايا غياب العدالة الاجتماعية والمجالية، والتهميش بكل أصنافه، وأصبحوا اليوم يتهددهم خطر العنف الأسود الذي يرتاع في الجامعات المغربية.
العنف كله شر مطلق، والدولة التي تسمح باستعماله من طرف بعض الشعب ضد البعض الآخر إلى زوال، فلا ينبغي للدولة أن تسمح بمثل هذا، أو أن تغض الطرف عنه، و بالأحرى أن تدعمه، فالنظريات السياسية الحديثة عرفت الدولة بأنها الجهاز الذي له حق احتكار العنف واستعماله في نطاق ضيق يحدده القانون، الذي يبين قواعد الاشتباك ويحرص على الدعوة إلى عدم الافراط في استعمال القوة، بل عدم اللجوء إلى استعمالها أصلا إلا عند الضرورة القصوى، والملاحظ أن الدول الديمقراطية أقل استعمالا للعنف، عكس الدول الاستبدادية التي تفرط في استعمال القوة خارج القانون، بل أكثر من ذلك ومن منطلق ” فرق تسد” تسعى إلى انتشار العنف وإشاعته بين الجماعات، والتوجهات المختلفة داخل المجتمع، ولعل ما تشهده أوساط التحصيل العلمي الجامعي في الكثير من الدول المستبدة “الممانعة” ضد الديمقراطية أو الدول التي تشكل استثناء في قدرة استبدادها على تجديد نفسه باستمرار. لخير دليل على نظرية “الاستثمار في العنف” التي تطبقها هذه الأنظمة.
عندما تتحول أوساط التحصيل العلمي من مدارس وجامعات إلى فضاءات للعنف الأسود، الذي تقتات عليه طفيليات سياسية استبدادية، ونزوعات متطرفة انفصالية أو عرقية أو لغوية أو دينية … فهذا أمر خطير لا تنحصر خطورته داخل الأسوار الجامعية فقط بل تتعداها إلى خارج الأسوار و إلى المجتمع بأكمله، فالجامعة هي صورة مصغرة عن المجتمع، إلا أنها تعكس المجتمع في درجة من درجات تلمسه الطريق نحو رقيه الفكري، فالمفترض في الجامعة إذن هو أن تكون فضاء لمقارعة الأفكار بالأفكار، والنظريات بالنظريات، و التصورات بالتصورات، والحوار والبحث عن الحد الأدنى من المشترك لتعزيزه، لأن أهمية المشترك مهما كان محدودا تكمن في كونه جامعا، وخطورة الخصوصيات مهما تعاظمت في أعيننا تكمن في كونها تفرق، صحيح أن مسألة الهوية تفرض نفسها كسؤال عميق يواجه الذات، إلا أن ما درجنا عليه من تأسيس الهوية على عنصر واحد خطأ قاتل، فالهوية بطبيعتها “هوية مركبة” وإن اختلفنا في تقدير أهمية عنصر على عنصر، فالدين، واللغة، والعرق، والانتماء الجغرافي، والأصل القبلي وغيرها من العناصر تتبلور في إطار هوية مركبة متدرجة، يكمل بعضها بعضا. ولذلك فكل صراع قائم على إثبات هوية بهذا المعنى الجزئي هو صراع خاطئ من الأساس، ويذهب ضحيته أطراف الصراع على حد سواء، فعندما يتحول الأمر إلى تعقب البعض البعض لقتله وإفناءه بدنيا، لأنه أمازيغي أو صحراوي أو يساري أو إسلامي… فهنا نكون قد ابتعدنا عن منطق الجامعة، إلى منطق ” القاصمة” التي تقصم الظهور، وتمزق النسيج الجمعي، وتذكي الصراع بين مكونات المجتمع. ومن خلال تتبع الصراع داخل الجامعة المغربية، يلاحظ أن جهات خارج الجامعة تحرك هذا العنف الأسود، وتستثمر فيه لخدمة أجندتها السوداء، ومواقعها في إطار موازين القوى داخل المجتمع، وقد يكون هذا مفهوما لأن الصراع موجود داخل حقل الممارسة الاجتماعية عامة، والسياسية خاصة، لكن غير المفهوم هو أن تبقى الدولة في “حياد سلبي” أمام هذا الوضع، وهي وحدها التي تملك المشروعية القانونية، والأدوات الكفيلة بإيقافه.
صحيح أن هناك شكوك في من يستفيد من هذا العنف، وهناك من يتهم الدولة بالوقوف وراءه أو بغض الطرف عنه في فترات التحول السياسي، ومطلوب من الدولة الرد عن هذه الاتهامات.
إلا أن التحليل الذي تقدم لا يعفي ساحة الفصائل الطلابية من المسؤولية، ففي خطابات أغلب هذه الفصائل تنديد بالعنف، مع استثناء معروف لتوجه يتفرد بإيمانه حتى في أدبياته بالعنف كأداة إقناع وكوسيلة لضرب المصالح الطبقية لـ”خصومها الطبقيين”. ولذلك يتعين على الفصائل التي ترفض العنف من حيث المبدأ، أن ترفض كل العناصر العنيفة أو القابلة للتحول إلى عناصر عنيفة وتجعلها خارج صفوفها، لأنها يمكن “استعمالها” لتشويه هذه الفصائل أو لإقحامها في دوامة العنف، كما يتعين عليها مد جسور التواصل والحوار مع الآخر المخالف المؤمن طبعا بمبدأ اللاعنف، وهذا سيمكن من عزل التوجه العنيف المتواطئ مع أدوات “التحكم السياسي.”
المصدر : https://tinghir.info/?p=15506