منذ العبارة التاريخية “زوج فرنك” لصاحبتها الوزيرة التقدمية شرفات أفيلال في خضم حديثها في برنامج حواري عن معاشات البرلمانيين، تناسلت النقاشات وتكاثرت التعليقات حتى استأثر الموضوع باهتمام كل فئات المجتمع المغربي وأصبح ملف تقاعد البرلمانيين والوزراء قضية رأي عام بامتياز.
لقد اتخذ النقاش أبعادا أخرى بعد الكشف عن منحة “تقاعد” البرلمانيين والوزراء والذي أعقب البرنامج المعلوم، ثم جاء الدور على أجرة رئيس حكومتنا بفضل مجلة “جون أفريك” التي أبت إلا أن تزيد طين التذمر بلّة، وبعدها كشف موقع إلكتروني أجرة رئيس مجلس النواب في مسلسل صادم لبسطاء المغاربة، الذين ظلوا في دار غفلون من حجم ما يقدّم لمسؤولينا من المال العام في وقت لا يملّ فيه السيد رئيس الحكومة عن ترديد موّال ضرورة الزيادة في كل شيء لمواجهة الاكراهات المالية التي تشهدها بلادنا.
إن ما يكلّفنا البرلمانيون والوزراء من رواتب ومعاشات يطرح أكثر من وقفة، فالوطنية لا تعني التغنّي وتنميق الكلم، فهؤلاء يعتبرون الأعلى أجرا من بين كثير من الدول التي يتقارب مستواها الاقتصادي مع بلادنا، أكثر من ذلك، يفترض أن نكون موضوعيين ولو لمرّة، فالوظيفة وظيفة ومعها يكون معاش التقاعد حقّا لا يسقط، والمهمة مهمة يتقاضى صاحبها تعويضا عنها لكن دون أي حق في التقاعد، لكون الاستفادة من هذا الأخير تضمنه الوظيفة الرسمية والأصلية، فما يتقاضاه البرلماني يجب أن يبقى في خانة تعويض عن مهام، وليس أجرا عن عمل لانتفاء قرينة التعاقد.
لقد أصبحت الساحة السياسية في بلادنا وللأسف مجال استثمار مضمون النتائج والأرباح، بعيدا عن كل تناول أخلاقي والتزام نضالي، لذلك لجأ إليه العديد من أباطرة المال والأعمال لجمع ومراكمة الأموال والثروات، ومن خلال مؤسسات الدولة بما فيها البرلمان والحكومة، هذا الوضع الذي يجهض حلم المغاربة في مشهد سياسي نظيف ومسؤول، ينتصر لمصلحة الوطن ويتأسس على الكفاءة والوطنية.
إن البرلمانيين والوزراء مدعوّون إلى النظر إلى مديونية بلادنا، فكل التقارير تقول أننا دخلنا المنطقة الحمراء من حيث المديونية، ويجب أن يخجل نواب “الأمة” وأعضاء الحكومة من أنفسهم وبعضهم يرغد ويزبد مدافعا عن “حقّهم” في المعاشات وبلادهم تعتبر الأولى عربيا وإفريقيا من حيث ديونها الخارجية بعدما فاقت سنة 2015 مبلغ 554 مليار درهم، الأنكى من كل هذا أننا في بلد احتلال الرتبة الثالثة سنة 2010 إفريقيا من حيث تهريب الأموال، إذ فاق حجم التهريب في الأربع عقود الماضية 210 مليارات دولار، فمن يهرّب هذه الأموال يا ترى؟؟
إنه من غير المنطقي وغير المقبول في بلد ينهج سياسة التقشف ويدّعي الأزمة الإقتصادية ويحذّر من إفلاس صناديق ومؤسسات الدولة، أن يسمح باستمرار تسعة وثلاثين وزيرا، ليس لكثرة المهام وتشعّبها، لكن لتحقيق التراضي والتوافق بين الأحزاب حول المناصب والحقائب، فما بال دول تفوقنا في كل شيء تكتفي بأقل من عشرين وزيرا؟؟؟
لم يعد يخفى على أحد من المغاربة، إﻻ من أبى، لماذا يجدّ ويكدّ رئيس الحكومة في تمرير سياساته اللاشعبية التي تهدف إلى تجويع الشعب والقضاء على الطبقة المتوسطة، وتكريس الفوارق الاجتماعية في المجتمع المغربي، اليوم فهمنا لماذا قال المعني “عفا الله عمّا سلف”، ولماذا لم يفرض الضريبة على الثروة، ولماذا لم يحارب الفساد، ولماذا غضّ الطرف عن الريع بكل أشكاله، ولماذا طوى ملف المأذونيات، ولماذا تحالف مع من وصفهم باﻷمس بالفاسدين، لماذا صافح السيسي بعد حين، لماذا مدح من أساء إليهم باﻷمس القريب، لماذا سمح لنفسه بكل التناقضات، ولماذا يلعب دور المهرج تحت قبة البرلمان، ولماذا تمسك بالكرسي، ولماذا ﻻ يكف عن التنازل عن صلاحيات يخولها له دستور ما بعد 2011، ولماذا يضحي ب”شعبيته” و”شعبية” حزبه، ولماذا يبالغ ويزايد على مخالفيه ب”الوطنية” المفترى عليها…
إننا أمام ريع سياسي مفضوح ومكشوف، وعلى المغاربة ألا يتراجعوا قبل تنازل البرلمانيين والوزراء عن “معاشاتهم”، إن ما يجري ويدور في دهاليز دولتنا الموقرة ينذر بمفاجآت أكبر، ولا نستبعد أن يضرب لنا القدر موعدا مع المزيد من المفاجآت والصدمات لأننا في دولة ينخرها الريع بكل أشكاله وتمظهراته، من جانب لوبيات تتوارث كل وسائل الإنتاج وتسعى لزرع الصمت. إن الصدمة، الحقيقية والمزلزلة، ستكون لأبنائنا عندما يكتشفون كم كنا جبناء ونحن نسكت عن هذه المناكر ونطبّع معها، وندّعي معها أننا مواطنون في دولة الحق والقانون.
إن الحكومة في الأخير مدعوة للخوض في هذا الملف بسرعة أكبر، لأن الخوض فيه حتمي ويبقى مسألة وقت ليس إلا، عليها أن تكون ذكية وتبادر بحذف هذه “المعاشات” لنزع فتيل التوتر، وتشعر المواطن البسيط أنها فعلا تجعل للتغيير ثمنا وعلى كل الفئات، بدل نهج سياسة الهروب إلى الأمام، من جهة أخرى، على البرلمانيين أن يتشجعوا فرادى وجماعات ويعبروا عن حسهم الوطني عبر التنازل عن هذا الريع الذي لم يعد له من مبرر.
المصدر : https://tinghir.info/?p=14929