إذا اعتمادنا لغة الأرقام للكمّ الهائل من المقالات الصحفية التي غطّت خلال السنين الأخيرة بين مُناصر ومُعارض ظروف مزاولة الباعة المتجولين وعدد الوقفات الاحتجاجية لهذه الفئة و الفئات المتضررة عبر ربوع المملكة، فيجب علينا الإقرار بأن مشكلة الباعة المتجولين قد أصبحت تُعدّ في المغرب ظاهرة اجتماعية واقتصادية بكل المقاييس. إذ وصلت هذه إلى مستوى المرض المستعصي الذي يحتّم علينا الإسراع في علاجه والتصدي له بالنقاش والمداولة لجميع الفاعلين من أجل اعتماد الطريقة المثلى للحد ممّا هو سلبي من الظاهرة, وتكريس ما هو إيجابي، بعيدا عن كل سياسة تعبوية فارغة من حسّ المصلحة العامّة لكافة التجار و الحرفيين على اختلاف مستوياتهم و تعدد مشاربهم وتخصصاتهم.
لقد اختارت المنظمة الديمقراطية للتجار والحرفيين أساسا مبدأ التوجه النقابي البديل في مواجهة مشاكل القطاعات التي تدعمها. وهذا المبدأ يرتكز أساسا على :
• تأطير المنخرطين وليس تطويعهم من أجل أهداف مصلحية مسطرة مسبقا.
• الدّراسة المتأنية والعميقة لمشاكلهم عبر تَبَنّي الرؤية الشمولية للطّرح دون إقصاء التدقيق الموضعي لخصوصياته المحلية والإقليمية والجهوية.
• صياغة مقترحات لمشاريع الحلول الناجعة والقابلة للتطبيق والضامنة للحقوق المادية والمعنوية لمجموع التجار والحرفيين.
ومن هذا المنطلق، فإن موقف المنظمة باعتبارها المتبني لقضية “الباعة المتجولين” من هذه الإشكالية واضح في معالمه بحيث أنه يهدف إلى تكريس مبدأ العدالة الاجتماعية وترسيخ الوحدة والتضامن بين صفوف جميع فئات التجار والحرفيين،لأن الظاهرة ليست وليدة ذاتها أو نتيجة اختيارات فردية وإنما أنجبتها مجموعة من المحدّدات الاجتماعية والاقتصادية والتي لم تستطع لحد الآن أن تسايرها القوانين والأنظمة الوطنية. فالتداخل للوازعَين الاقتصادي والاجتماعي في نشأة “التجارة الرصيفية” يجعل منها ممارسة مشروعة تستدعي من السلطة التشريعية الانكباب العاجل لوضع إطار قانوني من شأنه أن:
• يضمن لفئة “بائعي الرصيف” صفة المواطنة والحق في حياة كريمة.
• يخدم المستهلكين بتقريب سلع سليمة
• يحمي التجار المهيكلين من أضرار المنافسة الغير الشريفة
• ويجعل المِلك العمومي وجماليته في مأمن من خطر الاحتلال والتشويه.
هذا التداخل السوسيو اقتصادي المُنتج لظاهرة “الباعة المتجولين” يجعل كل المعنيين بهذا القطاع وبمخلّفاته ذَوُو حقوق منطقيّة ومطالب شرعيّة. فالتجار المهيكلون أصحاب المحلات التجارية حينما يصرخون إعلانا بخطر الكساد والإفلاس، فهم على حقّ، لأنهم لا يأملون سوى في الحفاظ على مصدر رزقهم، وأصحاب تجارة الرّصيف حين يرفضون رفع الحصار والاحتلال ولو اكتووا من حَمََلات حماة المرفق العام، فهم على حقّ، لأن فطرة البقاء لديهم أقوى من القدرة على الاستسلام، والسلطة الإدارية حينما تُجنّد رجالها وعتادها من أجل تحرير المرفق العمومي، فهي على حقّ، لأن سيادة القانون تبقى هي الأسمى والضامن لدولة الحقّ. فمع اختلاف زوايا الرؤية وتحديد ضحايا الظاهرة ومستوى المسؤولية لكل فاعل على حِدة تتَّضح الأمور ويسهل بالتالي التّشخيص ومن تمّ البحث عن اللقاح المجدي:
من الوجهة الاجتماعية : فإن مصطلح “البائع المتجوّل” أو “البائع المتنقل” أو “البائع الغير القارّ”، كوصف وظيفي، لا يقصي حامله كفرد من الانتماء إلى مجتمعه بكونه مواطنا يسعى إلى تقدير ذاته وتجنّب جميع التّفاعلات الاجتماعية التي قد تهدّد هذا التقدير الذي يعتبر هدفاً من أهداف الحياة. فظاهرة “الباعة المتجولين” ظاهرة عالمية لاترتبط لا بالتاريخ ولا الجغرافيا لأن بعدها إنساني محض.
* من الوجهة الاقتصادية: فظاهرة “الباعة المتجولين” ضرورة اقتصادية، تُمليها من جهة، خريطة الحاجة « la cartographie du besoin » فأينما وُجِدت الحاجة التّجارية وَجب تقريب العرض لإرضائها، و من جهة أخرى، ضرورة يستدعيها البحث المشروع عن مصدر رزق للفئات الهشّة المُهمّشة« Population en situation précaire » و الفئات التي لم يعد سوق العمل قادرا على إدماجها« Chômage technique » بفعل تداعيات العولمة وانكماش سوق الشغل.
* أمّا من الوجهة القانونية: فيمكن اعتبار مزاولة التجارة على شاكِلة ممارسة الباعة المتجوّلين عملا مشروعا في جوهره «acte légal » مادامت المنتجات المُتاجر فيها مشروعةَ التداول، ولكن يبقى فضاء الممارسة التّجارية لهاته الفئة مخالفا للقوانين المنظّمة للملك العمومي وللمنافسة الشريفة.
إذن ماذا عَسانا فاعلين في هذا الخضمّ؟ هل نظل مكتوفي الأيدي ونمنح للانتهازيين والوصوليين فرصة تصعيدنا، نحن التجار ضد بعضنا وإشعال نار المواجهة المفتوحة والمجهولة العواقب؟ أم نجلس على طاولة النقاش ونتناول الظاهرة بالدّرس والتحليل حتى يتسنّى لنا إيجاد الحلول ولنخرج أخيرا من حلَقة التراشق بالمسؤوليات إلى مسؤولية تطبيق المقترَحات؟
فأمام فشل سياسة الكرّ والمُصادَرة الممنهجة من طرف السلطة المحلية كحلّ للأزمة وفشل الإضرابات المتكرّرة التي أبانت عن عبثيتها وقصورها وعدم فعاليّتها، فإننا كمنظمة نقابية ديمقراطية مستقلة نحبّذ الخيار العلمي والنّقدي والتّشاوري، أوّلا، كوسيلة لفكّ خيوط الأزمة الحالية المفتعلة ونعلن استعداد المنظمة الديمقراطية للتجار والحرفيين لتعزيز جوانب التنسيق والتعاون المشترك مع الجهات المختصة من جماعات وسلطات محلية وهيآت حكومية ومنظمات غير الحكومية وجمعيات مهنية ومؤسسات مالية، كما نعبّر عن استعدادنا للمساهمة الفعالة في وضع مخطط استعجالي مندمج لإعادة هيكلة القطاع التجاري والحرفي ولإدماج الباعة المتجوّلين داخل منظومة القطاع الاقتصادي المهيكل بشكل يكفل تسخير قدرات هذه الشريحة وتوظيف خدماتها المقدّمة والمتنوّعة لِما من شأنه خدمة المجتمع والمصلحة العامة .
إن المنظمة الديمقراطية للتجار والحرفيين واعية بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لظاهرة “تجارة الرصيف” وتأثيراتها البينية السّلبية على قطاع التجارة المهيكلة ولكن تعلن رفضها لكل استثمار وصولي للظاهرة يهدف إلى قطع أواصر الانتماء بين التجار والحرفيين عامّة عوض نهج مقاربة شمولية لها تضمن لكل ذي حق حقه، كما تهيب ببعض المنابر الإعلامية أن تصالح عهدها بالتحليل الصحفي الناضج المستقل دون الخوض في تسعير الفتن في ظرفية اقتصادية وطنية ودولية لاتخدم مصالحنا.
المصدرعن جريدة المسافر
المصدر : https://tinghir.info/?p=14253