أحمد حسيسو
مقدمة:
الأنانية المفرطة وحب الخلود رأس المصائب وأساسها على ظهر الكرة الأرضية، وهي أساس الخلافات والصراعات التي لا تكاد تنتهي إحداها إلا لتنشب أخرى بين بني البشر، ولولا أن السلم وتبادل المصالح، وما يقتضيه ذلك من تنازلات جزئية أو كلية عن بعض المكتسبات والامتيازات، من وأسمى المطالب الإنسانية وآكد الضروريات، ما انقشع غبار المعارك لحظة واحدة حتى تهلك البشرية جمعاء، ولذلك فمن الحكمة التروي والنظر دائما في كيفية درء المفاسد وترجيح المنافع قبل الإقدام على إذكاء فتن ونعرات إذا اشتعلت فلن ينطفئ لهيبها حتى يأتي على الأخضر واليابس لا قدر الله.
“الأرض لن تكون جنة أبدا” كلمة سمعتها من الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله منذ زهاء ربع قرن، قالها الرجل الخبير بعقبات الدعوة أثناء حديث له مع أحد أبناء الحركة الإسلامية الجزائرية يومئذ، وهو صحافي جاءه قصد إجراء حوار لحساب جريدة المنقذ حينذاك، وكانت الحركة الإسلامية في الجزائر حينها قد استطاعت أن تجد لها موطئ قدم على أرضية العملية السياسية الرسمية، إذ أسست حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وشارك الحزب الجديد في الانتخابات التشريعية، انتخابات تاريخية فاز فيها الإسلاميون فوزا ساحقا فرح به المستضعون، وأزعجَ الخائفين من نهضة الجزائر في الخارج وخيب أطماع عملاءهم في الداخل، ولذلك حذر الإمام ياسين رحمة الله عليه زائره من الاغترار أو المبالغة في التفاؤل بهذا الإنجاز، نظراً لصعوبة العقبات التي لا محالة تعترض المشروع في مهده، وبالفعل لم يرُق الحدث الزلزالُ القِوى المحليةَ والدولية المعادية للإسلام السياسي النهضوي، وما نام لتلك القوى الأثيمة جفن حتى أجهضت التجربة الفتية آنذاك، تماما كما يحدث في مصر الجريحة حاليا.
وأد أذنابُ الصليبية والصهيونية آمالَ بلاد المليون ونصف المليون شهيد، وأتبعت الجنرالاتُ الفرنكفونية المغربةُ المليونَ ونصف التي أبادتها الآلة الحربية الفرنسية بمآت الآلاف من الأرواح البريئة الأخرى في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أليس قانون الغاب أرحم من جُرْم الإنسان!.
خيارات:
نعم إخواني الأمازيغ لن تكون الأوضاع على ظهر البسيطة رخاءً وهناءً وطمأنينة باستمرار، لا بد أن تعتريها حروب وكروب، لا تتوقف الصراعات على مستوى الثقافات المختلفة والحضارات المتنافسة والأديان المتناقضة بين الدول والأمم فحسب، بل وعلى مستوى البلد الواحد أيضا نجد خصومات ونزاعات تستند إلى منطق القبلية وعنصر اللغة والهوية التاريخية، يُعَدُّ شمال إفريقيا مثالا صارخا لذلك، حيث يتعايش العرب والأمازيغ منذ قرون، وبدأت تطفو على بحر هذا التعايش الرائع وهذا الانصهار العجيب بقع النعرات العرقية العنصرية، بفعل المفسدين الماكرين من بني جلدتنا الذين صاروا أداة تخريب طيعة عميلة بين أيدي أعداء الأمة الإسلامية، وبالخصوص في فئة الطلبة والمثقفين، وهذه محاولة أخرى لزرع بذور الشقاق بين أبناء بلدان مرشحة لبناء تكتلات اقتصادية وسياسية وحضارية قوية مستقبلا بحول الله ومشيئته.
كان الاحتلال الفرنسي في المغرب قد جرب شق صفوف المقاومة من قبل في ما سماه بالظهير “البربري” فمني بالخيبة والفشل الذريع ، أكره استعمال كلمة “بربر” لما توحي إليه من معاني التخلف والوحشية والهمجية التي يُراد إلصاقها بالسادة الأمازيغ الكرام، وحاشاهم، فهم الطيبون الكرماء الأحرار، يشهد لهم التاريخ الماضي والحاضر بكونهم أهل شجاعة وشهامة وأهل عزة وإباء وإقدام.
بالرغم من تحفظي شخصيا عن إثارة هذا الموضوع، لكني أجدني مضطرا إلى ذلك، فلا يمكن أن نغمض أعيننا ونصم آذاننا ونهرب من التذاكر في أمر من الأهمية بمكان حاضرا ومستقبلا، ومن المؤكد أن عدم الإجابة الكافية الشافية على إشكالاته سوف تكون له عواقب وخيمة خطيرة على مستقبل الأجيال القادمة في شمال إفريقيا، نحن الآن أمام طرحين رئيسيين متداولين في الساحة الجامعية إزاء القضية الأمازيغة، وللسادة الباحثين الأجلاء أن يتفحصوهما ويدرسوهما، وأن ينظروا مدى صوابيتهما وواقعيتهما، وللسادة المصلحين الفضلاء أن يبينوا وينصحوا وينبهوا وأن يقترحوا ما يحبذونه ويرونه أهدى وأقْوَمُ.
أحد الطرحين يقول بكون الوجود العربي في شمال إفريقيا، خاصة في المغرب و الجزائر، احتلالا لأرض الأمازيغ وسحقا لحضارتهم وطمسا للغتهم وتراثهم، مما اضطرهم في نظره للجوء إلى الجبال الوعرة والأراضي القاحلة حفاظا على الهوية والكرامة، بينما سكن العرب الغزاة القادمون من شبه الجزيرة العربية السهولَ الخصبة والمساحات الشاسعة الواطئة في البلاد، فهل هكذا يكون الفتح الإسلامي، أي عدل يسمح بهذا، وأي دين يبيح هذا؟
والآخر يقول بكون الفتنة التاريخية نائمة لن ينتفع أحد بإيقاظها، فهاهم العرب والأمازيغ حاليا في المغرب الأقصى مثلا مختلطون في المدن والقرى والوظائف، متزاوجون منصهرون، وقد ذهب المؤرخون إلى أن امتزاج العرب والأمازيغ بلغ درجة يصعب معها في مناطق كثيرة معرفة الأصول الحقيقية لكل من الجنسين والتمييز بينهما، إذ تمزغ كثير من العرب، تعد قبائل سوس وحاحّة نموذجا لذلك، وتعربت قبائل أمازيغية، تعتبر ساكنة منطقة دكالة مثالا لذلك، وفي هذا يقول المغاربة: “سبحان من مَزَّغَ حاحّة وعَرَّبَ دكالة”!
واقع الأمازيغ المغاربة:
من يعرف مثلا شساعة سهول دكالة ونسبة سكانها بالمغرب، وهم من أصول أمازيغة، سوف يدرك بطلان ما ذهب إليه بعض رواد الحركة الأمازيغية الذين يروجون لفكرة التجاء الأمازيغ إلى الجبال و المناطق القاحلة، تحت طائلة التضييق العربي، والواقع أن استقرار نسبة من الأمازيغ في الجبال يرجع في رأي بعض الباحثين إلى اختيار ثقافي حضاري، ثم ازداد وجودهم وتحصنهم في الجبال أثناء فترة الاستعمار الفرنسي الغاشم، وأملته متطلبات مقاومة الاحتلال.
معظم سكان المدن من الطائفتين يتفاهمون بالدراجة المغربية، وإن كان هذا يحز في نفوس أبناء الحركة الأمازيغية، الحركة الثقافية الأمازيغية التي أصبح لها وزن في النسيج الجمعوي المغربي، وترى في هيمنة الدراجة العربية إقصاءً للغة المغاربة الأصيلة التاريخية، يحق لها أن تتساءل وتُسائل المسؤولين عن تهميش تراث ولغةِ حضارةٍ عمرت آلاف السنين.
إن لهذه القضية نظيراتها كثيرة ليس في أقطار العرب والأمازيغ وفي بلدان المسلمين فحسب، بل وفي مختلف جهات وبلدان المعمور، فقد نطقت أمم بلغات ثم رويدا رويدا اختفت تلك اللغات واحتلت لغات أخرى محلها، وكانت هناك على ظهر هذه البسيطة حضارات عظمى ثم اندثرت فأضحت أثرا بعد عين، إما بفعل عوامل داخلية، أو على يد حضارات مناوئة أخرى، خريطة أوربا الآن بحدودها ودولها وجنسيات سكانها على سبيل المثال ليست هي أوربا قبل الحربين العالميتين، وبالتأكيد سوف نجد هناك مظالم تاريخية مست هؤلاء القوم أو أولئك، حسنا، لنفرض جدلا أنه تم إرجاع الأمور بعصا سحرية، كما يقال، إلى ما كانت عليه في أوربا قبل الحربين العالميتين المدمرتين، فهل تزول المظالم التاريخية من على وجه أوربا منذ أن وُجد البشر هناك؟ بالتأكيد، لا، وألف لا، فكم من الحضارات والأمم قامت واختفت على ظهرها على مر القرون الغابرة، مخلفة وراءها الضحايا والويلات، حدود تبدلت وشعوب أبيدت، ولغات اختفت وأخرى ظهرت، وهكذا… فهل نتابع أحداث التاريخ في متسلسلة زمانية رجعية غير منتهية لإصلاح أعطاب الماضي الغابر حتى نصل إلى أبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام؟؟…
إن من إخواني الأمازيغ من يتحدث صادق النية عن الحيف الذي يطال بني قومه ويبحث عن الإنصاف بصفاء سريرة وإخلاص، فنعم المقصد، وفعلا هناك الكثير مما يمكن ويجب فعله على مستوى النفوذ والوظائف والتنمية والبنى التحتية والتجهيزات والامتيازات والصلاحيات ورد الاعتبار والثقافة والتعليم والصحة والإعلام وغير ذلك.
الواقع كان ولا يزال شاهدا صارخا على التهميش والإقصاء والحرمان لأبناء المغرب “غير النافع”، فبعض مناطقهم معزولة لا تزال تعيش خارج هذا العصر، لا يكاد السائح الأوربي، بل وحتى الزائر المغربي، يصدق عينيه لهول مشاهد البؤس والفقر والمرض والشقاء والحرمان والأمية، مناطق تفتقر إلى البنى التحتية الأساسية ووسائل النقل والطرق والسكك الحديدية والمعاهد والكليات والمصانع والمستشفيات والأندية الثقافية والرياضية والترفيهية وغيرها.
الواقع كان ولا يزال شاهدا فاضحا لاستهزاء العرب من “الشلوح”، كلمة تحمل غالبا تنقيصا للأمازيغ وثقافتهم ولغتهم، حتى لا يكاد “الشلح” يستطيع الإفصاح عن هويته ولا يجرؤ عن التكلم بلغته وسط المدن حيث تسود الدارجة العربية، وإلاّ يتعرض لنظرات ازدراء وتحقير، ولكم أن تتصوروا مدى مهانة أمازيغي لا يعرف أو لا يتقن الدارجة بين القوم الأعراب؛ وفي مقابل ذلك يحظى العربي بين الأمازيغ بالإعجاب و التقدير، ويتسابق الجميع لإرضائه والتكلف في النطق بالدارجة بقصد التواصل معه.
لكن على كل حال، رحم الله من مضوا من السلف وأصلح ذات البين في أوساط الخلف، وحتى مع افتراض وقوع إقصاء مُتعمَّد في فترة ما، فماذا سوف يجني اللاحقون من إحياء أخطاء السابقين، لقد اقتنع الأمازيغ بدين الله وقادوا الفتوحات الإسلامية المظفرة وأسسوا دولا وإمبراطوريات إسلامية عظيمة مهابة الجانب، فماذا يفيدنا نبش القبور، إنما يفيدنا الآن بناء حاضرنا ومستقبل أبنائنا على أسس أخلاقية حضارية متينة، ولا بد لذلك من نيات طيبة وجهود عظمى عوض البكاء على الأطلال.
محاذير:
من قادة الحركة الأمازيغية دعاة عنصرية وإقصاء، كما في أوساط القومية العربية، لا يخفون كرههم للعرب ولغة العرب، بل منه من يرفض التحدث بها ردا على العربي الذي لا يرى له حاجة في تعلم الأمازيغية والتواصل بها، أمنية الإقصائيين الأمازيغ في أن يأتي اليوم الذي يرون فيه بلاد “تامازغا” التاريخية خالية من “الأجانب والغزاة”، لإقامة امبراطورية تامزغا التي يلوحون بعلمها وحدودها، مع ما يشير إليه ذلك ويضمره من نزاعات وويلات، فكرٌ متعصبٌ متطرفٌ منحرفٌ ينبغي أن يُفهم في سياق ردود الفعل على الأوضاع المأساوية والفرص غير المتكافئة التي يشمئز من أثرها مكون أساسي من مكونات الشعب المغربي المسلم، لكن لا ينبغي إضفاء طابع البراءة على هذا الفكر بأي حال من الأحوال، فهناك أعداء متربصون راهنوا ولا يزالون على إذكاء هذه النعرة التي وصف المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لواءَهَا بالراية العمية المنتنة، فتنة منتنة قذرة لو اشتعلت نيران حربها لا قدر الله فسوف تحرق الجميع، ويكون الخائضون فيها جميعا خاسرين، وليحذر عبادُ الله المؤمنون، فمن قُتِلَ تحت ظلالها فقد مات موتة جاهلية، وهو في الآخرة من الخاسرين.
المخرج:
أما آن الأوان بعد لتصحيح الأوضاع في بلداننا ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لوضع حد لهذه المعاناة وفق سنن التدرج؟ سؤال موجه طبعا للماسكين بزمام الأمر، المتصرفين في أرزاق العباد والمستحوذين على ثروات العباد، وموجه أيضا للعلماء والمثقفين وغيرهم من الفاعلين في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فليتقوا الله في أمة تحاك ضدها المؤامرات من طرف من يصطادون في الماء العكر سعيا لإشعار نيران الفتن وتمزيق أواصر الرحم والقربى وأخوة الدين؟
لا يزال العرب والأمازيغ على حد سواء بخير وكذلك الأمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها بقدر تشبت الجميع بالهدي القرآني الرباني، إذ يقول ربنا تبارك وتعالى في محكم كتابه: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا”، وقال أيضا: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم” ولا يزال يُرجى لهم وللمسلمين عامة أمانٌ وسدادٌ ورشادٌ بقدر استمساكهم بالعروة الوثقى المتمثلة في الهدي النبوي الشريف، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا فرق بين عجمي ولا عربي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى”، صدق الله مولانا العظيم وصدق رسوله المعصوم الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر أحمد حسيسو
المصدر : https://tinghir.info/?p=13630
Oumid Abdeslamمنذ 9 سنوات
تحياتي أستادي الفاضل والمخلص أيام إعدادية تغزوت !