“الفرق بيننا و بينكم أن حدادينا طوروا حدادتهم فحققنا الثورة الصناعية,بينما بقي حدادوكم في التقليد” أحد السياح الإنجليز لواحة مكون
1-معطيات عامة
تطلق “تامزيلتTamzilt ” في اللغة الأمازيغية على الحدادة التقليدية كما تطلق على زوجة أو ابنة الحداد الذي يسمى “أمزيلAmzil “,وإن كانتا(زوجة و ابنة الحداد) لا تمارسان هذه الحرفة,وتعتبر تامزيلت أو الحدادة التقليدية من الحرف العريقة بمنطقة الجنوب الشرقي عامة و إغيل نومكون تحديدا.
من الصعب تحديد التاريخ الفعلي لظهور هذه الحرفة بإغيل نومكون,إلا أن ارتباطها بحاجيات المجتمع المكوني الفلاحي في غالبيته العظمى,يرجح أن تكون بداياتها الأولى مع بداية الاستقرار البشري بالمنطقة و الذي يعود إلى قرون خلت,و ما يؤكد ذلك هو رواية موح أوعدي نايت عدي البالغ من العمر أكثر من 90 سنة,حيث يقول بأنه ورث هذه الحرفة عن أجداده الذين ورثوها بدورهم عن أجدادهم,ما يعني أنها تعود لأزيد من قرنين من الزمن على أقل تقدير.
وجدير بالذكر أنه و نظرا لما تتطلبه من مجهود بدني كبير,فإن تامزيلت بإغيل نومكون كما في غيره من مناطق الجنوب الشرقي اقتصرت على العنصر المائلة بشرته إلى السواد والذي يسمى محليا”أسوقيي Asuqiy و جمعه إسوقيينIsuqiyen”(1),لما يتصفون به من قوة عضلية و بدنية,حيث يشكلون مجموعات بشرية مستقلة بذاتها تسكن دواويرا تحمل أسماء تنسب إلى مهنتهم”إمزيلنImzilen “(أي الحدادين) و في حالة وجودهم كأقلية داخل دوار ما,فإنهم ينسبون إليه بإضافة صفتهم إلى اسم ذلك الدوار فنقول مثلا” إمزيلن ن أمجكاك Imzilen n Umjegag “,”إمزيلن نايت داودImzilen n ayt Dawd “…و ما انتشار أسماء هذه الدواوير في دادس(دوار إمزيلن) و تنغير(تاوريرت ن إمزيلن) و إغيل نومكون(دوار إمزيلن) إلا دليل على أن هذه الحرفة كانت تشغل الكثيرين وأن الإقبال عليها كان كبيرا قبل أن تتراجع و تتجه نحو الانقراض لأسباب عدة كما سنرى.
و المثير للاهتمام أن “أمزيل” رغم الخدمات الجليلة التي كان يقدمها لمجتمعه من صنع أدواتهم أو شحذها و إصلاحها و ما كان يبذله من مجهود في سبيل ذلك,إلا أن مهنته “تامزيلت” ظلت حرفة ينظر إلى صاحبها في المنطقة نظرة دونية تحقيرية(2),و الدليل على ذلك أن يقول أحدهم-مثلا- وسط مجلس من الناس و هو ذاهب لقضاء حاجته”Samhati Addugh ad frugh iwmzil “و ترجمتها”استسمح فأنا ذاهب لأدفع للحداد أجرته”,و كأن الحداد لا يستحق إلا البراز !
الدليل الآخر على دونيتها في المخيال المحلي أن الحداد لم يكن يتلقى مقابل عمله أجرة نقدية,بل كان عليه أن ينتظر موسم الحصاد”Tanbdut” ليتسلم حفنة من القمح أو الشعير يقول عنها عمي موح أوعدي(3)”إنها لم تكن تغني و لا تسمن من جوع”,في حين لم تستعمل النقود في التعامل بين الحداد و زبائنه إلا في وقت لاحق.
إن هذه النظرة الازدرائية اتجاه الحدادة التقليدية و ضعف مداخليها كانا ربما السببين المباشرين لهجرة الكثيرين لها و الإقبال على تعلم مهن أخرى,خاصة بالنسبة للشباب الذين يتضايق بعضهم من وصفه ب “أمزيل” نسبة إلى أجداده,في الوقت الذي لا يعير بعضهم الآخر اهتماما للأمر,بل و يفتخرون بمهنة أجدادهم,ما دفعهم إلى تطويرها و عصرنتها و ولوج معاهد التكوين المهني لتتحول تامزيلت إلى حدادة عصرية,حيث يتوفر إغيل نومكون على مركب حرفي عصري للحدادة يقوم بدورات تدريبية من حين لآخر,و الملاحظ أن نفس “العنصر الأسود” هو الذي يعمل بأغلب الورشات العصرية المنتشرة في دواوير إغيل نومكون,مما يؤكد ما قلنا سابقا من انتقال الحرفة من الأجداد إلى الأحفاد مع اختلاف الزمان و الوسائل و الظروف.
2-الحدادة المكونية قديما
أ-كيفية الحصول علىالحديد
لما كان الحديد المادة الضرورية الأولى للحداد,فقد كان من اللازم أن نطرح السؤال التالي:من أين و كيف كان إمزيلن يحصلون على هذه المادة الأساسية لصناعتهم؟
لقد سعى حدادو مكون للحصول على هذه المادة من إشحيحن بمنطقة صاغرو,حيث يروي عمي موح أوعدي(أقدم حداد في المنطقة),أنهم كانوا يسافرون على البغال و الحمير لمدة يومين,يصلون إلى إشحيحن و يبيتون هناك و في الصباح الباكر يقومون بجمع معدن الحديد المنتشر على سطح الأرض أو يقومون بالحفر للبحث عن حديد ذي جودة عالية ثم يقفلون راجعين نحو ورشاتهم لتبدأ عملية الصهر و التنقية,كانت حمولة البغلة تكفيهم لمدة تتراوح بين 15 إلى 20 يوما.
أما حدادو أيت زكري(إمزيلن نايت زكري) فكانوا يأتون بالحديد من مكان يدعى “تاداوت نلمعدTadawt n Lm3d” قرب “أقا نعسكر”,إلا أن حديد هذه المنطقة ضعيف الجودة, يضيف عمي موح.
و يواصل متحدثا عن مصادر الحديد في ذلك الوقت:”مع وصول الاستعمار الفرنسي إلى المنطقة لم يعد الحديد الخام يستعمل بكثرة,بل أصبحنا نستعمل قضبانا حديدية غليظة عبارة عن أجزاء و بقايا آليات و محركات ضخمة لم تعد صالحة للاستعمال,كان التجار ينقلون هذه القضبان”إفكاكن Ifeggagen” على الجمال و البغال من مراكش إلى بومالن أين كنا نشتريها عند تجار الحديد هناك,و في مرحلة الاستقلال ستظهر القضبان الحديدية الملساء المصنوعة من أوزال(أي الحديد) الخاصة بالبناء,ثم في مرحلة موالية ستصل إلينا القضبان المبرومة و التي نسميها لحديد نلهند”.
ب-مراحل صهر و إعداد الحديد
يروي خا موح أوعدي عن مراحل صهر الحديد و إعداده قائلا:”يمر صهر الحديد الخام بعدة مراحل,أولها أنه يتم وضع الفحم في فرن صغير مبني بالطين يسمى”تافورنوت Tafurnut”متصل عن طريق أنبوب بمنفاخ جلدي كبير يسمى “إفولانIfullan ” يتكون من جزئين متقابلين يصدران الهواء بالضغط عليهما بشكل متوالي,حيث يتولي “أدرّابAdrrab ” و هو مساعد “لمعلم” هذه المهمة,ليسلط المنفاخ هواءه على الفحم فيصير ملتهبا إلى درجة الاحمرار و بعدها يتم وضع قطع الحديد الخام على النار المتقدة إلى أن تصبح لينة فتسحب من الفرن و تدق إلى أن تتحول إلى مسحوق بحجم حبيبات الكسكس ثم يرجع ثانية إلى الفرن الملتهب لينساب إلى حفرة على شكل سائل لزج تتم تنقيته مما علق به من الأوساخ و الأتربة و الصدأ )تانيت-(Taniyt بواسطة كلاب نسميه “عبد النار”,وفي الأخير نصنع منه مكعبات أو كرات و قوالب حديدية خالصة,نقية و جاهزة للاستعمال.
كنا نخصص يوما كاملا أو أكثر لصهر الحديد و تصفيته من الشوائب,و عندما يصبح جاهزا-كما فصلت سابقا- ننقله إلى فرن آخر يسمى “أنوظUnud “,ننفخ عليه بإفولان حتى يلين فنقوم بقطع أجزاء صغيرة منه حسب الحاجة ثم يتم الطرق عليها فوق السندان لتأخذ الشكل المطلوب حسب الأدوات التي نريد صناعتها و التي لا بد أن تمر بحفرة الماء”تاقصرييت Taqsriyt” الموجودة بالقرب من الفرن “لسقيها”,لأن سقي الحديد يرفع من متانته و صلابته,فتكون تلك هي المرحلة الأخيرة “.
ج-طريقة العمل في “أنوظ”
يمضي عمي موح أيت موح “قيدوم الحدادين” بواحة مكون و الخبير في الحدادة التقليدية في سرد تفاصيل العمل في الورش (الذي يسمى محليا تحانوت أو أنوظ نسبة إلى الفرن الذي يلين فيه الحديد),حيث يقول”كانت الأيام في الورش متشابهة و مملة و لا اختلاف فيها باستثناء الأيام التي كنا نذهب فيها لجمع الحديد,نقوم في الصباح الباكر فنقصد أنوظ(الورش) حيث يعمل “لمعلم” رفقة “أدرّابAdrrab ” واحد أو اثنين”إدرّابن Idrraben”,أحدهما يتكلف بالمنفاخ و الآخر بصهر الحديد و استخلاصه من الشوائب ثم الطرق عليه إلى أن يصير جاهزا كما وضحت آنفا,بينما يراقب “لمعلم” عملهما و يتدخل بين الفينة و الأخرى لتوجيههما كلما تهاونا أو أخطآ,كما أنه قد يساعد في الطرق و تطويع الحديد,إلا أن دوره يبرز بشكل كبير في مرحلة تحويل الحديد الخالص إلى أدوات قابلة للاستعمال.
يتكلف “أدراب” بإحضار الفحم مقابل نصف المداخيل التي كانت عبارة في الغالب عن محاصيل زراعية,أما “لمعلم”فباعتباره مالك أدوات العمل و صاحب الورش(تحانوت أو أنوظ),فإنه يحصل على النصف الآخر من المدخول,و الورش عبارة عن غرفة صغيرة مستقلة عن باقي أجزاء المنزل و منفتحة على الخارج حتى يسهل على الزبناء ولوجها, وتحتوي على أدوات العمل و الأدوات المصنوعة التي يضع “لمعلم” علامة خاصة على كل واحدة منها تشير إلى أصحابها,أما” لمعلمين” الذين كانوا يستطيعون كتابة بعض الحروف فإنهم يكتبون عليها أسماء ذويها كي لا تتشابه عليهم”,و هذا ما عايناه في سوق أيت حمد بإغيل نومكون.
و لأدرّاب دور كبير في ربح الوقت و الرفع من الإنتاج,إذ يحكي عمي موح أنه إذا كان وحيدا لم يكن يتجاوز 10 مناجل في اليوم حيث يضطر للقيام بكل شيء من البداية إلى النهاية( النفخ و الصهر و التنقية و الطرق و الصناعة),أما إذا كان رفقة أدرّاب فإن الإنتاج قد يصل إلى 20 منجلا في اليوم,إذ يتكلف بكل المهمات الصعبة,بينما يركز “لمعلم” مجهوده في الصناعة.
كان الزبناء المنحدرون من الدواوير القريبة يأتون لتسلم أدواتهم من محل الحداد بأنفسهم,أما البعيدون فإن أمزيل هو من كان يتولى التجول على بغلته ليسلمهم بضاعتهم على أن يعود في موسم الحصاد لنيل أجرته !
3-الأدوات المستعملة و المصنوعات
كغيرها من الحرف التقليدية,فقد كانت لتامزيلت أدواتها الخاصة التي كان أهلها يسمونها “الماعون Lma3un”و التي لم يكن العمل بدونها ممكنا,فإضافة إلى إفولان الذي تم تعويضه ب “لافورج Laforj ” و تافورنوت, نذكر من أدوات أمزيل:”تكونت Taggunt ” أي السندان و المطرقة “إكيلم Iguilem ” في حالة كان حجمها كبيرا,أما في حالة كانت صغيرة فتسمى “تكيلمت Tiguilmet”,و “المقظاع” أو “أمغراسAmgheras ” و هو عبارة عن آلة حادة تستعمل لقطع القضبان الحديدية,و المثقب و يسمونه”المرشمLmrchem “,يستخدم لوضع ثقوب الصفائح أو ما شابه,و “إغمدان Ighmedan” عبارة عن ملقاط لسحب الحديد من الفرن,و “عبد النار” يستعمل لإزالة الصدأ و الأوساخ العالقة بالحديد أثناء صهره,و “تيشيرنا Tichiran” و هي أشبه بمبراد يستعمل لوضع أسنان المناجل…
أما المصنوعات فهي متنوعة و موجهة أساسا للاستعمال الفلاحي-كما قلنا سلفا- و أهمها سكك المحاريث”تيمكراز و مفردها تامكرازت Timkraz,yat Tamkrazt” و المعاول”Iylzzam إيلزام”و صفائح البغال “تسيلا Tisila”,و الفخاخ المستعملة لصيد الأرانب البرية “تالقلعين Talqli3in مفردها تالقليعت Talqli3t”,و المناجل” إمكرانImgeran و مفردها إمكرImger ” و الفؤوس “Ichuqar مفرده Achaqur “…و فضلا عن صناعة هذه الأدوات فالحداد كان يقوم “بأعمال الصيانة” و الإصلاح و الشحذ.
4-تامزيلت حرفة في طور الانقراض
شتان بين الأمس لما كان الحدادون التقليديون يعدون بالعشرات بل بالمئات و بين اليوم حيث أصبح الحفيد يجهل أسماء الأدوات التي كان جده يستعملها في حرفته,فأنى له أن يصنعها؟
هذا يؤكد بجلاء أن تامزيلت حرفة ماضية في الانقراض ليس في إغيل نومكون فقط,إنما في كل الجنوب الشرقي,و ترجع أسباب ذلك حسب قيدوم الحدادين بإغيل نومكون إلى الزحف التكنولوجي موردا مثال تطور وسائل النقل و تراجع عدد البغال عكس ما كان عليه الأمر في السابق,و تراجع عدد البغال-حسب خا موح أوعدي- يعني أوتوماتيكيا ركود صناعة الصفائح(مثلا),فضلا عن قلة صبر جيل اليوم و سعيه إلى الربح السريع,إذ لم يعد يقبل أن يواجه النار في ورش الحدادة لساعات طويلة لصنع منجل أو معول متاعب صناعته أكبر بكثير من ثمنه,وهذا يقودنا إلى الحديث عن التحول الذي وقع في المجتمع المكوني,حيث بدأ يتجه من مجتمع فلاحي إلى أنشطة أخرى كالتجارة و البناء و السياحة,و تراجع الاهتمام بالنشاط الفلاحي يعني ضمنيا تراجع الحاجة إلى خدمات أمزيل.
يضاف إلى كل ذلك ظهور ورشات للحدادة العصرية التي تعتبر “ضرة” للحدادة التقليدية,خاصة و أنها تصنع نفس الأدوات التي كانت حكرا على إمزيلن و بجودة أكبر و في وقت أقل,وهذا ما يجعل الحدادة العصرية في مقدمة الحرف غير الفلاحية بواحة مكون بنسبة 68 في المئة(4).
و من عوامل تراجع دور الحداد التقليدي و ضعف توارث هذه الحرفة,العامل النفسي الذي سبق أن أشرنا إليه سابقا و يتجلى في نظرة الاحتقار التي ينظر بها إلى أمزيل مما يجعل امتهان تامزيلت مدعاة للازدراء و السخرية و بالتالي يفضل الكثيرون احتراف مهن أخرى حتى لا يبقوا “مجرد إمزيلن” !
——————————————————————
1-يطلق هذا الاسم على العناصر التي تميل بشرتها إلى السواد بواحة مكون كما ببعض مناطق الجنوب الشرقي و سوس,و ترجعه(الاسم) بعض الروايات الشفوية المكونية إلى المرحلة التي كان فيها السود يباعون كعبيد في الأسواق و من تم اشتق اسم أسوقيي,أي الذي تم شراؤه من السوق,و الملاحظ أن صفة الحراطين غائبة بواحة مكونة على عكس مناطق أخرى من الجنوب الشرقي كمنطقة تافيلالت,مما يرجح أن “سود مكون” لم يكونوا يمارسون الحراثة بشكل كبير,باعتبار أن هناك من يرى بأن اسم الحراطين مشتق من الحراثين أي المزارعين( في تسمية الحراطين انظر مقال بعنوان “واحة تافيلالت بين الأمس و اليوم” للأستاذ لحسن تاوشيخت,ص 14 من سلسلة الندوات6 المعنونة ب “المجال و المجتمع بالواحات المغربية” مجلة كلية الآداب و العلوم الإنسانية,مكناس ط 1993).
و للإشارة فهناك فرق بين العبيد “الشديدي السواد” و الذين يسمون محليا إسمخان و بين الحراطين المائلين إلى السواد و الذين يسمون إمزيلن في واحة مكون.
2-نفس الأمر عن احتقار مهنة الحدادة أوردته فاطمة عمراوي في كتابها “دادس من بداية الاستقرار إلى تدخل الكلاوي”ص 108 ط الأولى 2007.
3- من أكبر المعمرين بإغيل نومكون و من المراجع التي اعتمدت عليها الباحثة الأمريكية كارين ريكنال Karen Ringall في بحثها المعنون ب “الدينامية السوسيو اقتصادية في منطقة دادس و مكون من خلال حركية السكان في الزمان و المكان”.
4-بحث لنيل الإجازة في الجغرافيا بعنوان” الأنشطة غير الفلاحية بواد أمكون الواقع و التحديات” من إعداد سعيد البحري و عبد المجيد أيت لحسن,ص32,السنة الجامعية 2012-2013 كلية الآداب و العلون الإنسانية ابن زهر.أكادير.
المصدرمصطفى ملو
المصدر : https://tinghir.info/?p=12997