لحسن أمقران.
يعتبر تدريس الأمازيغية وإدماجها في المنظومة التعليمية مطلبا تاريخيا للحركة الأمازيغية منذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي ضمن مشروعها الهوياتي الذي يهدف إلى مراجعة جوهرية للتعامل مع الخصوصية المغربية وشخصيتها المتميزة. وطالما تبنّت الحركة نهجا رصينا وعلميا في تناولها للمسألة اللغوية يستند على مرجعيات حقوقية، ثقافية، اجتماعية وسيكولوجية من جهة وعلى التجارب الرائدة لبعض الدول، لعلّها في ذلك تردّ الاعتبار للغة الأمازيغية وتنصفها على أرضها التي طغى عليها التعريب الممنهج كتجلّ للسياسة التأحيدية اليعقوبية التي ورثتها الدولة المغربية من المستعمر الفرنسي وتفاعل مع التوجه العروبي لما يسمى ب”الحركة الوطنية”.
لابد في البداية أن نقرّ أن إدخال أية لغة كيفما كانت ليس بالأمر الهيّن، فلذلك مقدمات تجب مراعاتها ومنحها ما يكفي من الجهد والزمن، وتبعات يتعين التنبؤ بها وإعداد حلول وإجابات لها، وفي حال اللغة الأمازيغية التي أرادت لها السياسات الرسمية أن تندثر وتختفي، تتضاعف التحديات وتتناسل المثبطات، فإعادة التوازن لواقع مختل وأعرج يهم الفرد والمجتمع رهان صعب بالنظر إلى عوامل كثيرة ومتشعبة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، والإيديولوجي بالتاريخي.
سنقول إن تدريس اللغة الأمازيغية وإدماجها في النسيج التعليمي المغربي سنة 2003، كان قرارا يشوبه الكثير من الغموض وربما التسرع، فقد كان القرار استجابة سياسية خاضعة للتوازنات أكثر من كونه قرارا تربويا مدروسا ومسؤولا. فبعد سنوات طويلة من الحذر تارة، والحظر تارة أخرى، وجدت الدولة المغربية نفسها – في سياق وطني وإقليمي ودولي جديد – أمام خيار وحيد يتمثل في ضرورة فتح صفحة جديدة في تعاطيها مع القضية الأمازيغية، مع ما يقتضيه التعاطي الجديد من التريث حينا والتسويف أحيانا أخرى، خاصة بالنظر إلى أن من النخبة الأمازيغية من يرفض الصيغة الحالية لتدريس الأمازيغية من جهة، ومن جهة ثانية، وجود عقليات داخل دواليب الدولة عموما ووزارة التربية الوطنية خصوصا لم تستسغ بعد هذه الخطوة، مما جعل انحسار السلوكات القديمة ضعيفا إن لم نقل أن أساليب جديدة ابتدعت لتنفير المغاربة وثنيهم عن الإقبال على اللغة الأمازيغية.
إنها في نظرنا انطلاقة خاطئة أضرت باللغة الأمازيغية ومشروع تدريسها بشكل منصف وموفّق يجعل الإقبال عليها كبيرا وعلى مختلف المستويات، ويجنبها نار المزاجية والارتجالية التي لا تزال تكتوي بها. جدير بالذكر أن الإحصائيات الرسمية حول تدريس اللغة الأمازيغية بالمؤسسات التعليمية تقول إن هناك “تطورا ملحوظا” منذ انطلاقته في الموسم الدراسي 2004/2003، فإحصائيات وزارة التربية الوطنية للموسم الدراسي 2011/2012، تقول إن عدد التلاميذ الذين درسوا اللغة الأمازيغية بلغ 545.000 تلميذٍ(ةِ)، أي بنسبة تقارب 15% من مجموع التلاميذ البالغ عددهم 4.016.934 تلميذًا(ةً) خلال الموسم الدراسي نفسه، على أن يصل العدد إلى مليون تلميذ في الموسم الدراسي 2012/2013، أرقام تظل في نظرنا المتواضع مجرد لغة خشبية تجترها الوزارة لتمويه المغاربة والتستر على الفشل الذريع لهذا المشروع المجتمعي الطموح، الذي لا يستحيي بعض المُعادين له من التصدي لبعض المحاولات و الاجتهادات – على قلتها – في سبيل تدريس حقيقي للغة الأمازيغية، وهو الطرح الذي تعرفه الوزارة نفسها عندما تقول أنها تصرح بما تتوصل به من مصالحها النيابية والاكاديمية.
المزاجية والارتجالية هما الوجهان الحقيقيان للتعامل الرسمي للمؤسسة التربوية مع اللغة الأمازيغية ومشروع تدريسها. لو أن كل ما صدر عن وزارة التربية الوطنية – على مدى عقد من الزمن – بوطننا الحبيب، في شقه المتعلق بتدريس الأمازيغية، قد دخل حيز التنفيذ والتطبيق كما “خطط” له لكانت اللغة الأمازيغية اليوم معممة في المؤسسات التعليمية وعلى امتداد التراب الوطني، وعلى كافة المستويات الدراسية، لكان المتعلمون المغاربة يعبرون ويكتبون باللغة الأمازيغية، لما تجرأ وزير على التلكؤ في تنفيذ قرار تدريس الأمازيغية، ولا مدير جهويّ على اتخاذ قرار إعفاء أكاديمية من اللغة الأمازيغية، ولا نائب إقليمي على “حذف” اللغة الأمازيغية وإنهاء “تكليف” أستاذ متخصص في المادة أو التردد في قبول الأساتذة المتخصصين، ولا مدير مؤسسة على تعبئة نقط مادة لا تدرس في الواقع أو إرغام مدرس متخصص على تدريس مادة أخرى، ولا تجرأ أستاذ على رفض تدريس المادة رغم استفادته من “التكوين” – إن صحّت تسميته كذلك – ولا أب أو ولي على طلب إعفاء ابنه من تلقي دروس اللغة الأمازيغية، ولا كل هؤلاء على تقديم أرقام مغلوطة مغلفة في جداول إحصائية غاية في التنميق لا في التحقيق والتدقيق.
من جهة أخرى جوبهت الجمعيات التربوية لمدرسي اللغة الأمازيغية – مع بعض الاستثناءات إقليميا – والتي بادر إلى تأسيسها ثلة من الأساتذة المهتمين بكثير من التجاهل سواء على مستوى السلطات التربوية الإقليمية والجهوية وحتى الوطنية، حيث ينأى الكثير من المسؤولين بأنفسهم عن اللقاء بهذه الجمعيات أو توقيع شراكات معها لأسباب مجهولة وغير مبررة بتاتا. كلها مظاهر تفند جدية المؤسسة التربوية في تعاملها مع تدريس اللغة الأمازيغية والتي سُيّست إلى درجة أن العامة تواجهها بكثير من التهويل والتشكيك.
لشديد الأسف وعميق التحسر، تبقى سياسة النعامة والشعارات الرنانة والشكليات المدروسة والأجرأة المعدومة هي الواقع والمعيش في هذا الملف الشائك. تصوروا معي أن أغلبية المدرسين لا يتناولون هذه اللغة المغلوبة على أمرها في أنشطتهم داخل الفصول الدراسية إلا القلة القليلة منهم، كيف ننتظر تدريسا فعليا للأمازيغية ممن لم يستفد من أية دورة تكوينية بالمرة؟ كيف ننتظر تدريسا فعليا للأمازيغية وبعض الأساتذة المنتدبين لتدريس الأمازيغية غير ناطقين بها تماما؟ وبالنسبة للفئة القليلة التي يقال إنها استفادت كما يحلو للمسؤولين أن يسموه تجاوزا “دورة تكوينية” فلم يتعد تكوينهم أربعة أيام أو خمسة، يؤطرهم فيها مفتشون دفعهم الحافز المادي إلى الخوض في معادلة متعددة المجاهيل، دورات بتأطير متوسط في الغالب، وانتقائية لبعض الأساتذة وحرمان آخرين بمدد وجيزة محكومة بهاجس التكلفة التي يأتي عليها الممونون والمكلفون بالتأطير، والأنكى والأمرّ أنها توقفت بشكل نهائي… حيث وكما أسلفنا الذكر تجد الوثائق وباقي الجانب الشكلي أعد بإتقان وعلى أحسن وجه في حين أن ما يجب التركيز عليه معدوم تماما.
كم تكون الحسرة كبيرة حينما نصادف تلاميذَ درسوا الأمازيغية عاما ثم يحرمون منها في الموسم الموالي ليعودوا إليها في موسم ثالث، أصبحنا نفضح أنفسنا للناشئة التي اكتشفت عشوائية ومزاجية هذا النظام التعليمي المشروخ، أليست هذه قمة الهدر المعرفي؟ غريب أن يجدّ ويجتهد المتعلم في الأمازيغية ليجد نفسه بعد ذلك غير مطالب بالامتحان فيها، أو ليست الإجبارية أحد المبادئ الأربعة التي تؤطر هذه العملية؟ حدثتنا المذكرات التنظيمية عن الأستاذ المتخصص لكن هيهات وهيهات، فالأمر خاضع لمزاجية رؤساء المصالح على صعيد النيابات ومواقفهم الشخصية من الأمازيغية، فمن الشحّ في الأطر التربوية التي لم تكلف الوزارة نفسها عناء إحصاء الحاملين منهم للاجازة في الدراسات الأمازيغية قصد الاستفادة من امكانياتهم المعرفية والمنهجية، إلى العرقلة الصريحة من الإدارة لهذه الخطوة الكفيلة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا المشروع المجتمعي الطموح، عرقلة غير مبررة بتاتا، بيد أن الأسوأ هو كم “التراجعات” الذي نشهده كل موسم وعلى طول التراب الوطني وبقرار نائب إقليمي يجترّ عقده الإيديولوجية.
تصوروا أن يكلف أستاذ مكوِّنا بمركز جهوي لمهن التربية والتكوين ولا يربطه واللغة الأمازيغية أكاديميا إلا الخير والإحسان، تصورا أستاذا مكوِّنا غير ناطق بالأمازيغية بتاتا !
قد يقول قائل أن الأمر مجرد حل ترقيعي لمرحلة دقيقة، لكن ما الذي فعلته الوزارة اليوم مع وجود حاملي الماستر في الدراسات الأمازيغية لتصحيح مثل هذه الحالات؟؟ لنكون صريحين مع أنفسنا: إذا جزمنا بحق الأمازيغية في أن تدرس للمغاربة بحكمها لغة رسمية للبلاد وقبل ذلك لغة فئات عريضة من المجتمع، إذا آمنا بشرعية ومشروعية تدريس الأمازيغية في المدرسة الوطنية، فكفانا من سياسة التحامل والترقيع والضحك على الذقون ولنتعاط مع الأمر بجدية عبر التخطيط المحكم والتطبيق الحازم والتتبع الدائم والتقويم الموضوعي، إن نحن أردنا فعلا الإدماج الحقيقي والفعلي المثمر، فليس بثمانين استاذا لكل موسم دراسي، ولكن بوضع آليات فعالة للتتبع والمراقبة، كفانا من تعبئة المطبوعات بأمور لا وجود لها في الواقع! كفانا من الإحصائيات الكاذبة والمشبوهة! كفانا من النظر بعين السخرية إلى هذا المكون الهام! كفانا من الانتقاص من قيمة أغلى ما نملك متمثلا في إرثنا الحضاري والثقافي! كفانا من إقحام تدريس الأمازيغية في الصراع الايديولوجي ! كفانا من استبعاد النسيج الجمعوي الأمازيغي من المجلس الأعلى للتربية والتكوين ! كيف يسمح المعهد الملكي لنفسه بالسكوت عن هذه “المجزرة” التربوية تحت ذريعة كون دوره استشاريا لا غير واقتصار دوره على الوفاء باتفاقية الشراكة بينه وبين الوزارة؟ كفانا من التسويف وسلاح الانتظارية.
وإذا كان هناك من يرى أنه “لا داعي لتدريس الأمازيغية”، فليتشجع وليعلن موقفه ويدافع عنه عله يجنبنا هدر الوقت والجهد والمال في الدورات التكوينية الكاذبة والمفرغة واللقاءات الروتينية والندوات المضللة وطبع وتوزيع مقررات تثقل كاهل المتعلمين بدون جدوى! أوقفوا تبذير المال العام في التوثيق الكاذب الذي لا طائل من ورائه! إن مسؤولية إفشال تدريس الأمازيغية تتحملها الحكومة في شخص الوزارة الوصية على القطاع، والتي أنهت اجتماعات اللجنة المشتركة بين الوزارة والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية منذ سنوات، ولم تلتزم بتعهداتها السابقة، وباتفاقاتها مع ذات المعهد، وعدم توفيرها للوسائل والإمكانيات الكفيلة بإنجاح تدريس اللغة الأمازيغية، إن السكوت على قرار من وزن “حذف” اللغة الأمازيغية بقرار من نائب اقليمي يستحق أكثر من تناول وردة فعل تجاه الوزارة، اللهم إن كان القرار وزاريا يؤشر عليه النائب تفاديا للفضيحة… وهذه دعوة مجددة إلى وزير التربية الوطنية إلى مراجعة مواقفه والتمييز الواجب بين القناعات الشخصية والوضع الاعتباري، فهو من يتحمل كامل المسؤولية فيما آلت إليه أوضاع الأمازيغية.
في الأخير، لا بد أن نعترف أن منظومتنا التربوية عليلة يشوبها غير قليل من الفشل، وتدريس الأمازيغية -وإن كان حديثا- لا يمكن أن يشكل استثناء من هذا الحكم، لكن المؤسف أن هناك محاولات للأطراف الفاعلة للتملص من مسؤوليتها بل ومحاولات لتوريط الطرف الآخر.ومن ذلك ما قاله وزير التربية الوطنية رشيد بلمختار، أن “المعهد الملكي هو الجهة المسؤولة عن النهوض بتدريس اللغة الأمازيغية التي ينص الدستور المغربي المعدل عام 2011 على أنها لغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربية.” الذي أضاف: «الدستور يتحدث عن الأمازيغية كلغة رسمية في البلاد، لكنه لا يتطرق إلى تدريسها، ما يستدعي قيام المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بدوره في هذا المجال». وزيرنا الذي نشتم أنه ينتصر لقناعات شخصية بدل الانتصار لاختيارات وتوافقات المغاربة.
ليس لنا إلا أن نأسف على واقع الأمازيغية بالمدرسة المغربية، ونتمنى أن تؤخذ الأمور بجدية أكبر لأن المسؤولية ستظل على عاتق أهلها، كل أهلها، أمام محكمة التاريخ التي لا ترحم، نكررها: محكمة التاريخ التي لا ترحم.
(*) : نص المداخلة التي شاركنا بها في الندوة الوطنية حول تدريس اللغة الامازيغية على هامش الدورة العاشرة لمهرجان تيفاوين بمدينة تافراوت
المصدرلحسن أمقران
المصدر : https://tinghir.info/?p=10845