بعد النجاح الكبير الذي عرفه الجزء الأول من رواية “بوح”، يعود الكاتب والروائي المغربي محمد أيت الحاج إلى القرّاء بجزء ثانٍ صدر مؤخرًا عن دار الصومعة للنشر والتوزيع والترجمة، ليواصل من خلاله مشروعه السردي الذي يمزج بين الإبداع الأدبي والاشتغال المعرفي على البنية الاجتماعية والنفسية للإنسان المعاصر.
في هذا العمل، يفتح أيت الحاج أفقًا سرديًا جديدًا، يغوص فيه بعمق في عوالم المحظور والمسكوت عنه داخل المجتمع، مستثمرًا أدوات علم الاجتماع الذي يشكّل خلفيته الأكاديمية لفهم الواقع وتفكيك بنياته. فالرواية ليست مجرّد حكاية تُروى، بل مختبر فكري وإنساني يعرّي التناقضات التي يعيشها الأفراد والجماعات، ويطرح أسئلة صادمة حول ما يختبئ خلف واجهات القيم والعادات والمعتقدات.
• بوح.. من الحكي إلى مساءلة الوعي الجمعي:
يتميّز أسلوب محمد أيت الحاج بقدرته على المزاوجة بين السرد الواقعي والبعد التأملي، حيث يتخذ من الحكاية وسيلة لمساءلة الوعي الجمعي الذي يصوغ تصوّرات المجتمع عن ذاته. فـ”بوح” ليست فقط رواية عن الأفراد، بل عن المنظومة الاجتماعية التي تُنتج الخوف، وتُكرّس الصمت، وتُعيد إنتاج الأسطورة في ثوب الواقع.
وفي الجزء الثاني، يعمّق الكاتب رؤيته أكثر، محاولًا دفع القارئ إلى إعادة النظر في المسلّمات التي اعتادها، وإلى اكتشاف المسافة الفاصلة بين الواقع الحقيقي والمتخيّل الجمعي الذي يوجّه السلوك الفردي والجماعي. ومن خلال لغة متينة وإيقاع سردي مشدود، تتّخذ الرواية منحًى داخليًا تأمليًا يعكس صراع الإنسان مع ذاته ومع مجتمعه في آنٍ واحد.
• بين الواقعية والتحليل الاجتماعي:
تجسّد رواية “بوح” تلاقحًا نادرًا بين الكتابة الإبداعية والتحليل العلمي، إذ يوظف أيت الحاج أدوات الباحث الاجتماعي في فضاء روائي نابض بالحياة. فهو يكتب بعين الراصد، لكن بقلب المبدع، فينقل الواقع لا كما يبدو، بل كما يُحَسّ ويُعاش. وتشكّل شخوص الرواية نماذج إنسانية تحمل هموم العصر، وتعكس هشاشة الإنسان أمام التحوّلات القيمية والثقافية المتسارعة.
• الجرأة في طرح القضايا الحساسة:
لا يتردّد الكاتب في اقتحام المناطق المحظورة التي غالبًا ما يُتجنّب الحديث عنها في الأدب، فيتناول قضايا الهوية، والجسد، والدين، والسلطة الاجتماعية، بأسلوب رصين يوازن بين الجرأة والعمق. ومن خلال هذه الجرأة، لا يسعى إلى الصدمة بقدر ما يسعى إلى تحريك الوعي، ودعوة القارئ إلى التفكير بدل الاستهلاك السردي.
• محمد أيت الحاج.. رؤية تتجاوز الحكاية:
يُعدّ محمد أيت الحاج واحدًا من الأصوات الروائية المغربية الجديدة التي تشتغل على مشروع فكري وجمالي متكامل، يزاوج بين الحس الإبداعي والتحليل السوسيولوجي. وقد استطاع من خلال “بوح” أن يؤسس لمسار روائي يميّزه عن غيره من الكتّاب الشباب، بفضل لغته الرشيقة، وقدرته على تحويل الأسئلة النظرية إلى عوالم سردية حيّة تنبض بالإنسان.





















