تهافت طرح محمد بودهان عن الإمام الغزالي

admin
2020-06-26T09:46:38+01:00
اقلام حرة
admin26 يونيو 2020
تهافت طرح محمد بودهان عن الإمام الغزالي
عبد الحكيم الصديقي

تهافت طرح محمد بودهان عن الإمام الغزالي

كتب الأستاذ محمد بودهان مقالا حول كورونا وعودة الجدل بين العلم وعلاقته بالدين إلى ساحة النقاش الفكري، عنوانه (“كورونا” .. العلاقة بين العلم والدين)، مقال يدعو فيه إلى الفصل بين العلم والدين، أو إن شئت فقل بين الخرافة والعلم بحسب تعبيره، ويرجع فيه سبب انحطاط المجتمعات الإسلامية إلى اعتمادها تفسير الظواهر الطبيعية بالعلل الغيبية، وأساس هذا الانحطاط عنده هو موقف الإمام أبي حامد الغزالي من قانون السببية المستلزم للقول بالجبرية، يقول بودهان: “ولهذا فإن نفي الغزالي لمبدأ السببية كان إيذانا بدخول المسلمين عصر الانحطاط والتخلّف، والذي لم يخرجوا منه بعدُ، وتدشينا لهيمنة التفكير الغيبي والخرافي … وتعطيلا لإعمال العقل لتفسير الظواهر بمعرفة أسبابها الطبيعية، وهو ما استحال معه أن تنشأ وتتطوّر العلوم الطبيعية التجريبية عند المسلمين”.

المتأمل في كلام بودهان يعلم كم التغليط والتزييف والأدلجة الذي يتضمنه، فبإطلالة سريعة على تاريخ المسلمين وميدان العلوم في الحضارة الإسلامية قبل ومع وبعد الغزالي سيقف القارئ على حقائق تهدم هذه النتيجة المتخيلة العارية من أي دليل ومبرر سوى الأدلجة وإرادة التحريف من خلال الاقتباس من المخيال الاستشراقي المعادي لكل ما هو إسلامي، بعيدا عن الدراسة الموضوعية لأسباب الانحطاط. ويمكن أن نحيل القارئ هنا إلى كتاب جورج صليبا “العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية، وكذلك كتاب “حضارة العرب” لجوستاف لوبون، فليس لبودهان قدم السبق في إراد هذا الكلام المتهافت بل سبقه إليه غير واحد ممن تأثروا بالوافد الاستشراقي، من أمثال محمد عابد الجابري وغيره، ولعل المستشرق “دي بور” قد سبق هؤلاء إلى هذا الادعاء، يضاف إليه صاحب كتاب “إغلاق عقل المسلم” روبرت رايلي.

يمكن أن يقال هنا إن موقف الغزالي من السببية، الذي حاول من خلاله أن ينزع عنها طابع الضرورة، وأن يبرز أن علاقة السبب بالنتيجة علاقة قائمة على العادة فقط. هو نفسه موقف ديفيد هيوم من خلال كتابه “مبحث في الفاهمة البشرية” فهل يستطيع بودهان أن يقول عن ديفيد هيوم ما قاله عن الغزالي؟ هل استحال تطور العلوم في الغرب بعد نقد هيوم لمبدأ السببية؟.

إذا كان اعتراض بودهان على الغزالي لأنه يعتبر علاقة السبب بالنتيجة قائمة على العادة، فإن قانون السببية بوصفه علما ضروريا، قبل أن يكون مبدأ معتمدا في المعرفة الطبيعية هو من المبادئ العقلية التي نثبت به وجود الله، وندرك من خلاله الوجود الخارجي والقوانين الناظمة له، لأننا نشاهد في العالم الخارجي أن حدوث أي ظاهرة من الظواهر لابد لها من محدِث/سبب، فلا يوجد شيء داخل هذا العالم هو علة أوسب بنفسه، ذلك لأن العلة تسبق المعلول ضرورةً، وهكذا حتى نصل إلى علة أولى أو سبب أول لا سبب له، إذ أن العقل يقضي باستحالة تسلسل الأسباب إلى ما لا نهاية، بل لا بد من الوقوف عند سبب أُول هو مسبب الأسباب الذي لا سبب له، وهو الله سبحانه وتعالى، ويقرر ابن تيمية ذلك حين قال: “وذلك أنه قد عُلم بضرورة العقل أنه لا بدّ من موجود قديم غني عما سواه، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد عُلم بالاضطرار أن المحدَث لا بدّ له من محدِث، والممكن لا بدّ له من واجب”.

فإذا علمنا أن الله واجب الوجود وهو مُحدِث الوجود، علمنا أنه هو الذي جعل إداركنا لهذا الوجود والظواهر الطبيعية ينتظم وفق مبدأ السببية الذي نشأ عندنا من خلال مشاهدتنا المتكررة لتمظهراته في الواقع الموضوعي (الطبيعة)، وهو الذي جعله قانونا من القوانين الأساسية للبحثِ العلمي، فهو من المبادئ التي يعتمد عليها العلم الطبيعي في كشف الحقائق الكونية. ولولاه ما كان بالإمكان الكشف عن ظواهر الطبيعة وقوانينها، فهو مبدأ وإن كان لا ينتمي إلى القضايا العلمية، إلا أنه ضروري لها، وعلى رأي “كارل بوبر” أن ما يميزه عن القضايا العلمية، هو أنه لا يقبل التكذيب خلافا للقضايا العلمية، كما أنه يعد أساس هذه القضايا، ولذلك يرى “برتراند رسل” أن فرضية وجود قوانين ثابتة للسببية تبدو غير قابلة للنقض وتعطي أساسا للدليل على وجود الأشياء الخارجية بافتراض أنها هي التي تسبب إحساساتنا الصورية لهذه الأشياء.

الشاهد أن البحث الذي يجري في تفسير ظواهر الطبيعة، بالوقوف على عللها الفاعلة الخاصة والعوامل التي سببت وجودها، يتم طبقا لمبدأ السببية، لهذا لن نجد العلماء المسلمين يفسرون الظواهر بأنها تخلو من الأسباب بإطلاق، أو أن وجودها نابع من العدم التام، أو يقفون عند عللها الغيبية فقط، فإذا عرفنا هذا تبين لنا أننا سواء اتفقنا مع الغزالي أو اختلفنا معه في موقفه من مبدأ السببية باعتبار العلاقة العادية القائمة بين السبب والنتيجة، فإثبات هذا المبدأ لا يستلزم نفي ربط تفسير الظواهر الطبيعية بعللها الطبيعية والغيبية على السواء. ولا يستلزم ذلك وجود تضاد وتناقض بين التفسيرات العلمية لهذه الظواهر والتفسيرات الغيبية أو ربطها بالله سبحانه وتعالى بوصفه مسبب الأسباب. وهذا ليس فيه أي خرافة أو انحطاط إلا في مخيال بودهان.

لا يكتفي بودهان في مقاله بنقاش مسألة السببية عند الغزالي وتلفيق انحطاط وتخلف المسلمين لموقفه منها، بل يمتد سوء تقديره ومخياله الخصب في كيل التهم جزافا إلى القول: “فأصبحت أفكار الغزالي المنكِرة للسببية بمثابة اكتشاف عبقري فذّ، وغدَت كتبُه، المناهضة للفلسفة والعقل والمنطق، مرجعا في الجهل المقدّس المستند إلى الدين”.

لا أدري هل يعي الأستاذ بودهان ما تخطه أنامله أم أنه أطلق العنان لقلمه أن يكتب ما شاء دون أدنى تحر للحقيقة العلمية التي يلوكها دون احترامها، الغزالي الذي كتب كتاب “معيار العلم” وهو كتاب في المنطق أصبح بقدرة بودهان مناهضا للمنطق والعقل، الغزالي الذي قال في مقدمة كتابه المستصفى: “من لم يدرس المنطق لا يوثق بعلمه” أصبح بجرة جهل مناهضا للمنطق، الغزالي الذي أسس مفهوم الشك المنهجي في كتابه “المنقذ من الضلال” قبل ديكارت بقرون، بل إن ديكارت الذي يعتبره هيجل واضع أسس فكر الحداثة عالة على الغزالي في ذلك، ويكفي المقارنة بين كتاب المنقذ من الضلال للغزالي و وكتاب مقالة في المنهج لديكارت للتأكد من التأثير المباشر للغزالي في ديكارت.. أصبح بإسهال قلم مناهضا للفلسفة والمنطق والعقل.

أما كتابه “تهافت الفلاسفة” فيقول عنه الدكتور الطيب بوعزة في مقاله “الغزالي والفلسفة”: “والحقّ أن أبا حامد أبان، في متنه ذاك (أي تهافت الفلاسفة)، عن مقدرة منهجية تحليلية، وحس نقدي جريء، في مقاربته للفكر الفلسفي اليوناني كما تمثّله الفلاسفة المسلمون في عصره (ولاسيّما الفارابي وابن سينا)؛ حيث تتبدّى قدرته التحليلية في تصنيف الفلاسفة «على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبـهم… إلى ثلاثة أقسام: الدهريون، والطبيعيون، والإلهيون»، كما تظهر، في نظره، في مختلف الأبحاث الفلسفية المتداولة في زمنه، واستخلاصه المسائل التي رأى فيها مخالفة للرؤية الإسلامية للوجود، حيث أوجزها في عشرين مسألة، عَدَّهَا مدار الخلاف بين المعتقد بدين الإسلام، وبين المتمذهب بفلسفات الإغريق”. وهذا رابط مقال الدكتور الطيب بوعزة عن “الغزالي والفلسفة” للوقوف على جهل بودهان بموقف الغزالي من الفلسفة:

https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-3839

بعد كل هذا التطواف والتجوال في محاولة يائسة لتلفيق تخلف وانحطاط المسلمين بما ليس أساسا لانحطاطهم وتخلفهم يتسع مخيال الأستاذ بودهان أو لنقل تتسع دائرة الخصومة الأيديولوجية لديه إلى حد القول: “أما الاعتراض أن الإسلام يدعو إلى إعمال العقل وتأمّل الظواهر لفهمها، فهو اعتراض خارج الموضوع. لماذا؟ لأنني لا أناقش هنا موقف الإسلام من العقل والعلم والمعرفة بالأسباب، وإنما أناقش موقف المسلمين، أي الإسلام كما يفهمه ويمارسه المسلمون“. وهل يختلف فهم بودهان للإسلام هنا عن فهم المسلمين له؟ الحقيقة أنه لا يناقش الإسلام ولا المسلمين بل يناقش سوء فهمه للإسلام وسوء تقديره لفهم المسلمين. بل يطرح تناقض تصوره لعلاقة العلم بالإسلام .. فإن كان من فصل يمكن الدعوة إليه هنا فهو الفصل بين الموقف المؤدلج والموضوعية العلمية والمعرفية..

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.