في النزعة المادية وفلسفة الصيام

admin
2020-05-15T14:15:09+01:00
اقلام حرة
admin15 مايو 2020
في النزعة المادية وفلسفة الصيام
عبد الحكيم الصديقي

لا شك أن من تشبع بمخرجات الحضارة المادية المعاصرة وتنفس فلسفاتها التي تهيمن على جميع مجالات تدبير الجسد الإنساني، لا يستطيع أن يتجاوز تفكيره حدود هذا الجسد ومتطلباته المادية، وبالتالي فأي تقييد لرغباته وشهواته يقابل بالبغض من جهة أو بالكراهة والامتعاظ وثقل النفس من جهات أخرى، ذلك لأنها حضارة لا روح فيها، وبالتالي لا حياة فيها رغم ما قد يبدو لك من مظاهرها، وهذا أمر طبيعي لأن نظرتها للوجود ومنه الإنسان واحدية القطب إن صح التعبير، لا ثنائية القطب، تلك التي تزن بين العالمين: عالم المادة الأرضي، وعالم الروح السماوي، أو جدل العلاقة بين الغيب والإنسان والطبيعة.

في فلسفة متسقة، كتب “علي عزت بيجوفيتش” كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”، جعل فيه الإسلام محور اتزان بين الأضداد، فهو اتزان بين روحانية الشرق الخالصة ومادية الغرب الطاغية كما يبدو من عنوانه. لينتهي في خاتمة فلسفته بتمثيل الإسلام كوحدة ثنائية القطب تجمع السبيلين في طريق واحد، وبالتالي فالتجربة المعيشية لست روحانية صرفة ولا مادية محضة، بل هي حسب عبد الوهاب المسيري أكثر تركيبية من أي منهما بمفرده.

ورغم أن الإسلام يحقق هذه الثنائية القطبية وهذا الاتزان بين الروح والمادة، إلا أننا نجد في بعض الأوساط الإسلامية، غلبة الاهتمام المتزايد بمظاهر المادة على حساب الروح ومتطلباتها، وهذا راجع بالضرورة إلى تأثير الحضارة المادية على تلك الأوساط، بوصفها حضارة سائلة ومتغلبة. ليس على مستوى الاستلاب الحضاري فقط بل حتى على مستوى التأثير الثقافي أو ما سماه إبراهيم السكران “سلطة الثقافة الغالبة”.

تطالعنا مواقع التواصل الاجتماعي في هذه الظروف التي يمر بها العالم على خلفية جائحة كورونا، وعلى إيقاع هذا الشهر الفضيل وهو شهر رمضان المبارك، باهتمامات الناس وانشغالاتهم، فعلى الرغم من عودة مظاهر التدين والاستعداد النفسي لاستقبال نفحات هذا الشهر الكريم عند البعض وهو ما تعبر عنه صور المصاحف والمساجد المنزلية وغيرها، إلا أن البعض الآخر لا زال متمسكا بروتينه اليومي قبل الجائحة وقبل رمضان، والذي لا يتجاوز حدود تتبع الأخبار السيئة ونشر التفاهات، وصور الأجساد بدعوى الإيجابية، ومقالات تسوق للمظاهر المادية الجافة اقتصادية وسياسية… أو تدوينات تتضمن السخرية من الدين ومن شعائره، وأغلب هؤلاء تجدهم صائمين، وهذا يتعارض مع فلسفة الصيام بوصفه الميكانيزم الحقيقي لتهذيب وتطهير النفس من أدرانها، وخلق اتزان بين الجسد والروح، بتغليب دوافع هذه الأخيرة وسموها على الجانب المادي خلال هذه الثلاثين يوما.

ولا يتحقق هذا السمو إلا بغلبة الدافع الروحاني المتجاوز للمعطى المادي المحدود، يقول الإمام “ابن القيم” عن الصوم: “هو لجام المتّقين، وجنّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها، إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه”، ذلك لأن ترك المسلم طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله عز وجل هو أمر لا يَطَّلِع عليه بشر، وتلك حقيقة الصّوم.

وبالتالي فيجب أن ينعكس أثر هذا الصيام على سلوكات الإنسان، وتسمو به تصرفاته، ويترفع عن الأفعال الدنية، والتمظهرات الغبية، سواء بينه وبين نفسه، أو عبر جميع الوسائل التي يتفاعل فيها ومعها، ومنها هذا العالم الافتراضي، ليلحق بركب المتجملين بمقام التقوى، بوصفها الغاية من فرض الصيام، أوليس الله هو القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فتأمل.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.