نقد العقل الجابري

admin
2020-05-06T12:47:05+01:00
اقلام حرة
admin6 مايو 2020
نقد العقل الجابري
عبد الحكيم الصديقي

من محاسن الأقدار أنني أتيت على ذكر المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في مداخلتي ضمن الندوة العلمية التي نظمها المنتدى المغربي للتنمية والتضامن فرع إقليم تنغير بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، والتي عنونتُها بعنوان “جدل التجديد الديني في الفكر المعاصر”.

ذكرت الجابري في معرض حديثي عن تأثير المناهج والخلاصات الاستشراقية في المقاربات الحداثية للتراث الإسلامي، والإشكالات التي تطرح عليها، لأجد مناقشات لفكر الرجل على مواقع التواصل الاجتماعي، بين مؤيد ومعارض، والأمر متعلق بمناسبة حلول ذكرى رحيله التي لم أنتبه إليها.

ولعلها مناسبة للحديث بشكل مقتضب وعرض أطروحتين نقديتين لمشروع الجابري، نقد الدكتور إبراهيم السكران من خلال كتابه “التأويل الحداثي للتراث” ونقد الفيلسوف طه عبد الرحمان من خلال كتابه “تجديد المنهج في تقويم التراث”.

الأول يتحدث عن الطروحات الحداثية المشتغلة بتأويل التراث بوصفها نتاجا “مُرَسْكَلا” للطروحات الاستشراقية لكن بلغة عربية، وبتعبير السكران “إعادة إنتاج للخطاب الاستشراقي الذي يتعامل مع التراث الإسلامي بأدوات العلوم الاجتماعية -لا العلوم الشرعية- فيحاكمه بقوانين لا تصلح له”.

يستسهدالدكتور السكران في أطروحته بالعديد من التأويلات الحداثية للتراث، ومنها كلام الجابري في كتبه والتي لا تختلف عن تقريرات المستشرقين الفيلولوجيين في كتاباتهم مصاغة بلغة عربية مخففة ليس فيها حدة العداء الإستشراقي للتراث الإسلامي لكنها تنتهي إلى ما انتهى إليه، وكمثال على ذلك ما أشار إليه السكران حين تحدث عن تأثير المستشرق الفيلولوجي “آرنست رينان” صاحب النظرية العنصرية التمييزية بين “السامية” و”الآرية”، وما يتضمنه موقفه من هجاء للغة العربية بوصفها لغة عاجزة عن استخلاص الكليات والتجريد الذهني في طرح الجابري وإن بشكل مخفف كما ذكرنا، وهو ما نجده في كتابه “تكوين العقل العربي” في تفريقه بين الأنظمة المعرفية، خصوصا العقل البياني (العربي) و العقل البرهاني (اليوناني/الغربي).

وقول الجابري في كتابه “العقل الأخلاقي العربي”: “إن الموروث الإسلامي الخالص -الحديث- مخترق من قِبل القيم الكسروية”، وهو في هذا ينقل عن المستشرق “جولدزيهر” في كتابه “العقيدة والشريعة في الإسلام” والذي يرى الأمر ذاته بلا أي دليل موضوعي سوى الخيال التحليلي حسب قول السكران.

وكذلك إعادة تصنيع الجابري لطرح يزعمه المستشرقون وهو تسرب الفكر الجاهلي العربي للعلوم الإسلامية فنجد الجابري يصرح بهذا التوفيد الاستشراقي حين يقول في كتابه “تكوين العقل العربي”: “ليس هناك معقول متحرر تماما من اللامعقول، وبالمثل ليس هناك موروث قديم يمكن عزله عما عبرنا عنه بـ”الفكر الديني العربي”، والذي نقصد به الكتاب والسنة كما يمكن أن يقرآ داخل مجالهما التداولي، ذلك لأن هذا المجال التداولي يتحدد أساسا بـ”الموروث الجاهلي”، أي بنوع الثقافة ومستوى الفكر السائدين في مكة والمدينة على عهد النبي”.

يعلق إبراهيم السكران على كلام الجابري قائلا: “ما يسميه الجابري “الفكر الديني العربي” ليس هو استنباطات متأخري علماء الإسلام، بل هو أيضا “الكتاب والسنة” في عصر الصحابة، وكلها في نظره متأثرة أساسا بالموروث الجاهلي العربي، ولا يمكن عزلها عنه”. ثم يضيف: “هذا نموذج من الموقف التوفيدي الإجمالي من علوم الإسلام، وهو موقف يعاد توزيعه بالتجزئة على كل علم من علوم الإسلام كما صنع المستشرقون”.

هذه أمثلة من بين أمثلة كثيرة يذكرها السكران في كتابه، توضح مدى تغلغل النتاج الاستشراقي في بنية تفكير دعاة التأويل الحداثي للتراث، أو المستهلكين المحليين للتأثير العنقودي الذي لعبه الاستشراق بتعبير إبراهيم السكران، وهو ما جعله يخلص في خاتمة الكتاب إلى أن فكرة موت الإستشراق إنما هي أسطورة لا مصداق لها. ويختم بالقول “إن مشروعات التأويل الحداثي للتراث تغرق في وحل ليدن وهي تظن نفسها تبحر باتجاه قرطبة”.

أما طه عبد الرحمن فيرى أن المناهج التي توسل بها أصحاب مشاريع نقد التراث الإسلامي في اشتغالهم على التراث، هي مناهج بعيدة عن المجال الإبستيمي الإسلامي نفسه، أي أنها ليست من جنس التراث، وإنما هي مناهج مأخوذة من مخلفات العقلانية المجردة الغربية، ولذلك يصعب قبول نتائجها لوقوعها في أخطاء صريحة في مضامين التراث، يقول طه إن: “أغلب المنهجيات والنّظريات المأخوذ بها في نقد التراث يصعب قبول أغلب مسلماتها، وإن بعضها، وإن قبلنا جدلا مسلماته، فمن الصعب قبول أغلب نتائجه، وإن بعضها الآخر، وإن قبلنا نظريا نتائجه، فمن الصعب قبول أغلب تطبيقاته؛ وترجع هذه الصعوبة في وقوع هذه المنهجيات والنظريات في أخطاء صريحة بصدد مضامين التراث، فقد استعجل أصحابها إصدار الأحكام على هذه المضامين… كما ترجع هذه الصعوبة إلى ضعف قدرة هؤلاء على امتلاك ناصية الأدوات المنهجية العقلانية والفكرانية التي توسّلوا بها في نقد التراث”.

ينتهي النقد الطهائي إلى إقرار وقوع الجابري في التناقض بين النظرية والتطبيق في منظومته الفكرية، ذلك لأنه انتقل من نظرة شمولية للتراث، ثم تطبيق تجزيئي تفاضلي لفهم التراث، ومن البحث في المكنزمات التي أنتجت الثقافة العربية الإسلامية، إلى البحث في مضامين الخطاب التراثي لهذه الآليات، والنتيجة وقوع الجابري في آليات استهلاكية تعبّر عن القطيعة مع الآليات الأصلية التي أنتجته، وقد تكون آليات عقلانية مجردة، أو آليات فكرانية مسيسة وفي كلتا الحالتين الجابري لا يتحدث عن المأصول وإنما عن المنقول.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.