الأطفال لا يشيخون…

admin
اقلام حرة
admin26 نوفمبر 2017
الأطفال لا يشيخون…
أمل مسعود

كل صباح، قبل أن يرتاد إسماعيل مقر عمله في البلدية، كان يجلس في مقهى على الشارع، يكرر طلبه المعتاد. يقدم له النادل فنجان القهوة مصحوبا بقارورة ماء صغيرة. يشرب قهوته و يتصفح جرائده اليومية المعتادة. قبالة  الشارع توجد قطعة أرضية خالية مليئة بالحشائش و الربيع المتوحش. لم تكن مخصصة كمساحة خضراء، فقط كانت تنتظر دورها لتتحول إلى عمارة أسمنتية. ربما كانت تنتظر أن يربح صاحبها ورقة الياناصيب ليتمكن من تجهيزها، أو ربما أن يتخلى عنها مقابل المال لمقاول ثري. بيد أنها لم تكن تنتظر مصيرها المحتوم بصمت و سلبية. فهي استطاعت أن تخلق لنفسها هوية و روحا. و هكذا كانت تدب بالحياة. فهي لم تنبت فقط الحشائش و بعض الورود البرية، و لم تجعل من نفسها فقط موطنا لبعض الحشرات كالجراد و الفراش و النمل،  و لكنها استطاعت كذلك أن تزرع  وهج الحياة في أرواح جافة.

فكثيرا ما كان إسماعيل، و هو يشرب قهوته و منهمك في قراءة أخبار بلا معنى عن أشخاص لا يعرفهم و أماكن لم يزرها و وقائع لم يصادفها، يسرح ببصره ناحية القطعة البرية. فتجتاحه رعشة طفيفة و حزن و حنين غير مفهومين.

ففي كل صباح، كان يعبر فوج من الأطفال الصغار الشارع ليذهبوا إلى مدرستهم. فكانوا يتوقفون قليلا في الساحة، فيصنعون لوحة حياة مبتهجة مليئة بالنشاط و الحماسة. فبعضهم كان يطارد الجراد.. و آخرون يصطادون الفراشات.. و أخرون يرسمون القلوب بمداد أحمر في الحجر المتناثر على الأرض، و يكتبون بالطباشير أسماء أحبة الفصل بشقاوة  ” سعاد و علي”، ” أحمد و ليلى “، ” عثمان و سارة”، فيحاول كل من ظهر اسمه مكتوبا على الحجر أن يمسحه بتحد و إصرار و كأن الحجر سيفضح حبهم البريء، فيتدافعون ليسقطوا بعضهم في الحشائش و من تم يتبعوهم في السقطة الحرة و هم يضحكون و يصرخون و يقهقون بانفعال.. و بعد أن يتعبوا يكملوا طريقهم نحو المدرسة غير عابئين بملابسهم التي اتسخت و لا بشعرهم الذي تشعث.

الأطفال يتسخون، يركضون، يتدافعون، يضحكون، يغامرون، يتعبون، يحبون و يمضون… و لهذا هم لا يشيخون.

و ربما هذا ما يزعج إسماعيل. هل يشعر بأنه بدأ فعلا يشيخ؟ هو بالكاد أكمل الخمسين. و لكنه يبدو كهلا. فعضلاته متصلبة و يابسة. و لا يبتسم إلا نادرا. كما أنه تعود أن يتصرف بجدية و رتابة مستفزتين. فهو لم يتخلى عن ربطة العنق منذ أصبح موظفا في البلدية، أي منذ أكثر من خمس و عشرين سنة. فتلك كانت طريقته ليظهر للجيران و للعالمين بأنه أضحى موظفا حكوميا مهما. و مع الوقت أصبح يمشي بدون حيوية لأنه افتقد إلى الحماسة في كل ما يفعل. فهو اعتقد أنه فطن إلى  قواعد المثالية في الوظيفة العمومية في زمن البروقراطية،  أي الانخراط في  لعبة جدية الرتابة، بمعنى التظاهر بالجدية في العمل بدون أن يبرح أي  ملف مكانه، و أن تعطي الانطباع بأنك مهم بدون أن تكون نافعا.

و لكنه اليوم، يدرك بأنه أخطأ عندما قبل الارتشاء. عندما قبل أن يتخلى عن ذاته مقابل الامتيازات. و ها هو يدفع حياته ثمن خطيئته. ها قد شاخت روحه ، و تعب جسده و تبلدت أحاسيسه  بدون أن يعش حقا… فماذا لو لم يتخل عن الطفل العنيد المشاكس فيه؟ ماذا لو ظل يقاوم و يتدافع و يتسخ و يلعب و يسقط و ينهض و يحب و يغامر؟ ماذا لو لم يتصرف بجبن حيال ذاته؟ ماذا لو اختار الحياة بدل الرتابة و الجمود؟

المصدرأمل مسعود

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.