لا تكن أنانيا أكثر من اللازم

admin
2017-03-10T10:41:01+01:00
اقلام حرة
admin10 مارس 2017
لا تكن أنانيا أكثر من اللازم
خالد ناصر الدين

قصة طريفة قرأتها في مجموعة قصصية موجهة للأطفال، سأنطلق منها لأناقش مرضا من الأمراض المزمنة التي تنخر كيان مجتمعنا التنغيري نخرا، يصعب تحديد بطل هذه القصة بدقة، لأن البطولة الحقيقية _على الأقل في رأيي المتواضع_ لا ترتبط بحجم الحضور في المتن الحكائي كما هو شائع، بقدر ما تتعلق بما يميز الشخصية عن غيرها من استقامة وسداد وإشعاع وإيثار ونبل وصدق وحكمة وألمعية ونبوغ…

(كان يستقر في الطابق الأول من عمارة من طوابق ثلاثة، وكان يعيش حياة هادئة مطمئنة، يعود من عمله متعبا، يلاعب أبناءه ويساعدهم في إنجاز واجباتهم المدرسية قبل أن يخلدوا جميعا إلى النوم تجديدا للنشاط، واستعدادا لمتاعب ومشاق اليوم الموالي، كانت الأمور تمشي على ما يرام إلى حدود ليلة وُشِمّتْ في ذاكرته، استيقظ وزوجته وأطفاله الثلاثة فزعين مذعورين ذات ليلة على الساعة الرابعة صباحا على إيقاع أبواب تصفق، ونوافذ تفتح بعنف شديد، وأحاديث تتبادل بين عمال يتحدثون بأصوات مرتفعة جدا عن مستلزمات العجين، وأنواع الحلويات الواجب إعدادها، وعن عدد وصائل الخبز التي طلب منهم رب المعمل تحضيرها للزبناء في بحر ذلك اليوم… لم يفهموا شيئا من كل ما سمعوه لحظتئذ، كل ما فهموه أنهم ظلوا مستيقظين بعدما حرموا في نوم هادئ تعودا عليه منذ استقرارهم في هذا المسكن منذ أكثر من سنة، أمضوا يوما صعبا جدا بسبب اضطراب النوم الذي ابتلوا به لَيْلَتَئِذٍ، اعتقدوا الأمر حالة طارئة لن تتكرر في البداية، كظموا غيظهم وتبادلوا نظرات وعبارات الاستنكار والشجب فيما بينهم، غير أن الأمر لم يكن كذلك إطلاقا، كانت تلك هي البداية فقط، وظل الأمر يتكرر كل ليلة، تحولت حياة الأسرة إلى جحيم لا يطاق، الأمر يتعلق بمشروع “مخبزة ومصنع للحلويات” أقامه صاحبه في الطابق السفلي من العمارة… “إذا عُرِفَ السبب بطل العجب”، لم يفكر البطل في حل الفرار واستبدال هذا المسكن بمسكن آخر لأسباب كثيرة، كما أنه لم يفكر في اللجوء إلى السلطات المسؤولة لإيقاف هذا المشروع المزعج البئيس، ظل صبورا كظوما للغيظ حكيما إلى أبعد الحدود، لذلك فقد اتصل بصاحب المشروع، وتعرف إليه، واستضافه في بيته وأكرمه غاية الإكرام، بل وألح عليه أن يتناول معه وجبة العشاء وأن يمضي في ضيافته ليلة واحدة، استجاب صاحبنا لطلب جار “مشروعه” الودود الكريم، وبينما كان يغط في نومه العميق، تكسر هدوء اللحظات بالأصوات المزعجة القادمة من الطابق السفلي… حينها فقط أدرك كم كان أنانيا عندما فكر في مصلحته الخاصة فقط، ولم يراع حرمة الجيران ولا حقوقهم المشروعة في السكينة والاطمئنان، غمره خجل شديد، عَجَّلَ بإيقاف المشروع، وطفق يطلب الاعتذار من البطل ومن أفراد أسرته، بل ومن كل الأسر المستقرة في العمارة… وصلت الرسالة إذا بأبلغ وأجمل وأنبل أسلوب…)

لن يجرؤ أحد منا على ادعاء أنه قادر على أن يتبنى مثل هذا الموقف، ولا على أن يتصرف مثل تصرف هذا البطل، لا لاستحالة وتعذر ذلك، بل لأن الأمر يستدعي تربية إيمانية صادقة ومتينة وعميقة، أنى لأحدنا أن يحظى بها؟ ثم لأن المجتمع المفتون علمنا أن نرد الكيل كيلين، وأن نقابل الإساءة بإساءة أفظع وأشنع حتى لا نتهم بالضعف والذلة والهوان، كما علمنا أن “الآخر” شر مطلق ولا خير يُرجى منه، لذلك وجب التصدي له بكل أسلحة الدمار الشامل حتى يَنْزَجِرَ ويلزم حدوده.    

طبيعي جدا أن يحب الإنسان نفسه، بل إنها غريزة من الغرائز التي فطر الله الناس عليها، لكن المشكل يبدأ عندما يتجاوز هذا الحب الحدود المسموح بها، ويقتحم بعنف فظيع عوالم الآخرين، ويمس مصالحهم بلا هوادة ولا غضاضة، الأمر في هذه الحالة يتحول إلى مرض نفسي يسمى بلغة علم النفس “الأنانية”، إنه مرض يجعل صاحبه يرى نفسه أصلا وكل الآخرين فروعا، ومحورا يدور في فلكه كل الأشخاص وكل الأشياء، وغاية يهون في سبيل إشباع رغباتها كل شيء… وبناء على ذلك يتحرك الإنسان الأناني دائما في الاتجاه الذي يُقَوِّي “أناه” ويجعلها أكثر بروزا أشد طغيانا، ولن نعدم الأمثلة المؤكدة لحقيقة شيوع هذا الداء العضال في أوصال مجتمعنا التنغيري هذا:  

_أنت يا من يستأثرون بإرث الوالدين وحدهم، ويحرمون أخواتهم الإناث من حقوقهن المشروعة باسم أعراف بالية ممسوخة أنانيون حد الثمالة.

_أنت يا أسن الإخوة أناني حد الجنون، إذ تسعى لأن تحظى وحدك فقط بكل شيء، بدعوى أنك الأجدر بالحفاظ على اسم العائلة والأقدر على القيام بدور الأب الحاضر/الغائب.  

_أنت يا من يخون أمانات إخوته، يتسلم المبالغ المالية المعتصرة من ألم الغربة وعرق الجبين، ويسجل كل الممتلكات باسمه الشخصي أناني حد النخاع.

      _أنت يا من يتخطى صفوف المواطنين المنتظمين أمام مصلحة من المصالح الإدارية، بدعوى أنك مشغول، أو لأنك صديق أو قريب للموظف المسؤول أناني بامتياز.

     _أنتم  يا من اختاروا أن يقيموا مشاريعهم غير المشروعة في أحياء سكنية هادئة مطمئنة (مصانع الزليج، ورشات الحدادة والنجارة، حظائر الأبقار والأغنام…)، فأقلقتم راحة الجيران في مساكن ضاعت منهم السكينة، وجعلتهم ينفرون من بيوتهم نفورا… أنانيون حد الهوس…

حري بكل منا أن يجالس نفسه قليلا، يتحدث إليها بحميمية وصدق وشفافية، يضع نفسه في مواقف الآخرين ليشعر بحجم الألم والضرر الذي يلحقه بهم جَشَعَهُ وطمعه وأنانيته المفرطة، حري بكل مصاب بداء “الأنانية المفرطة” أن يتذكر أن انتماءه للإسلام يحتم عليه استحضار النماذج الخالدة التي مجدها القرآن الكريم: “ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”، حري به أن يتذكر بأن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام كان يوصي بالجار حتى ظن الصحابة أنه سيورثه، وأن يتمثل قوله صلوات ربي وسلامه عليه: “لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، لو امتلك الأناني جرأة أن يجرد من ذاته ذاتا أخرى يحاورها ويحاسبها وينصت إليها ويتقمص من خلالها شخصيات الآخرين لتجنبنا مشاكل كثيرة الأكيد أننا في غنى تام عنها.                       

 

        

المصدرخالد ناصر الدين

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.