الفتوحاتُ المعرفية فِي تنغيــر

admin
اقلام حرة
admin11 ديسمبر 2016
الفتوحاتُ المعرفية فِي تنغيــر
محمد بوطاهر

إن علاقة الثقافة بالمكان علاقةٌ قديمة جدًا، ارتبطت به منذ ارتباطها بالإنسان الذي هو مُعمِّر المكان ومُحركه، فثقافة المَكان هي ثقافةُ من سكن المكان، وكلما كانت سَطْوة المكان قوية وذات شوكة، إلا وكانت ثقافة أهلها كبيرة وعلمهم أرقى منزلة وأظهر عُجبا. ومن خلال هذه العلاقة الجدلية سنحاول أن نفهم سياق وصُول فرسان الفتوحات المعرفية إلى تنغير؛ في شكل مهرجان القراءة الذي ينظم لأول مرة بالمدينة والذي انطلق يوم 9 دجنبر ويمتد إلى 23 منه، ولماذا تتمنع تنغير عن كل ما هو ثقافي معرفي وتحاربه بشراسة منذ القديــم؟

 جميلٌ أن نؤكد في البداية أننا على وفاق تام أن القراءة فعل تنويري يُسْهم في خلق فرد/ مجتمع  واع يتحمّل مسؤولية النهُوض بالمُجتمع وازدهاره وفق شروط الاحترام ومبادئ حقوق الانسان والعقلانية في اتخاذ القرارات، إنه عملٌ جيد وشكل من اشكال التثقيف والتوعية يحسَبُ للجهات المُنظمة لمهرجان القراءة بتنغير، هاته المدينة الجاثمة بأطراف الجنوب الشرقي لم تكن تعرفُ مثل هذا النوع من الأنشطة من قبل، وهو ما دفع أهلها إلى جَحْظ عُيونهم والتردد قبل زيارة الرواق المتربع وسط المدينة. رواقٌ مقرونٌ بمجموعة من الأنشطة الثقافية المُوازية التي تسْعى إلى محو سمة الجهل القرائي التي وسمت بها تنغير وأهلها، والتي تجعلهم من أرذل التجمُّعات غير الآبهة بالقراءة والمعرفة في الجهة كلها، وذلك لأسباب موضوعية وذاتية عديدة، تراكمت عبر سنين طوال حتى غدا مثل هذه التظاهرات نشازا بالمنطقة.

 من يزورُ تنغير منذ القديم يجدها واحة فيحاء بمناظرها الطبيعية الخلابة، دأبَ أهلها على ممارسة أنشطة اقتصادية وخدماتية متوسطة وأحيانا فلاحية ضعيفة، ولا تربطهم علاقة بالمجال الفكري الثقافي، وقد زاد تواجدُ منجم الفضة بالمنطقة والهجرة نحو أوربا وكل ما ترتب على ذلك من عائدات مادية مُحترمة من تجبّر الأسر وزهدها في كل ما يرتبط بالمعرفة والثقافة التي لن توصل في أحسن نتائجها إلا إلى تحقيق وظائف مُجتمعية صغيرة، بالكاد تكفي لتحقيق كينونة البقاء على قيد الحياة. هذا النوع من التفكير توارثه الخلف عن السلف حتى لم تعد هناك رغبة قائمة للمعرفة والثقافة في المنطقة، وبدأ الجميع يُهرْول الى مجالات الاستثمار الاقتصادي والربح المادي المباشر الذي لا يفضل عن  تعلم الحُروف أو نيل الشهادات أو ما يُسمى عند البعض” خبز المخزن” كناية عن الوظائف العمومية.

بجوف هاته المدينة المُعقدة التي تحاول الانبعاث من جديد ومحو أثر الانفصام المُجتمعي العُضال الذي تعيشه بسبب تأرجحها بين التقليد والتجديد، تتكدس فضاءات الخدمات السريعة من أكل وتجارة ونقل ولباس ومقاهي وغيرها مما يدخل في سلة الاستهلاك المادي المباشر، بحيث تستبد سلطة المقاهي عبر شارع محمد الخامس الذي يخط المدينة من رأسها حتى قدميها، وتشكل حاجزا منفرا يُوحي لكل زائر بمقدار الفراغ الذي يُعَانيه الانسان التنغيري واستهتاره بالوقت، في مقابل كل ذلك لا تكاد تبصرُ الا مكتبة وحيدة طلّقت رفُوف الكتب وعوضتها بآلات النسْخ والجلد وأشياء أخرى تخصُّ الدعاية والإشهار.   

غيابُ الحسّ التعلُّمِي عند أهل تنغير وعدم منح المعرفة حق قدرها من العناية والتوقير هو ما جعل هذه المدينة تتخبط منذ القديم في ويلات الجهل والضلالة الجهلاء، فلا أحد يذكر تنغير إلا بشبقها الجنسي (أقْدار) و مضائقها السياحية التي يستحيل أن تجد فيها جريدة واحدة تدل على حس المعرفة في المكان. إن الأمر فعلا يطرح أكثر من علامة استفهام، خاصة اذا استحضرنا تجاهل السلطات المحلية للمطالب الثقافية وتقزيمها في الرياضة ومهرجانات الرقص وتسلق الجبال. ثم غياب جمعيات فاعلة تحمل همّ المعرفة والقراءة، وكذا نفور الجميع من الكتاب والحكم على كل من يمسك كتابا أو يطالعه ب”الشخص القديم” أو المُصاب بعلة عقلية. فنحن نرى بشكل مباشر كيف يسخرون في المقاهي المتناسلة عبر الشارع اليتيم من شاب تنغيري يُمسك أثناء رواحه وغدوه دائما بحزمة كتب وجرائد يقرأها، وهو وجهٌ معروفٌ في المنطقة؛ تصرفٌ يُبين بشكل صارخ مقدار جهل الكثير من أهل المنطقة بأهمية المعرفة والقراءة وكرههم لها.

 إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، قول الحق تعالى الذي يشبهُ كثيرا علاقة المعرفة والقراءة بتنغير، علاقة تأبى رغم مثل هذه المهرجانات القرائية والتشجيعية أن تتصالح، فلا يكاد يمر زمن النشاط الثقافي حتى تعود حليمة الى عادتها القديمة، بل ان ما تلاقيه مثل هذه الأنشطة الهادفة من نفور وبرودة الزيارات واستغراب كذلك، لا يبشر بمستقبل معرفي واعد للمدينة، إنها مسألة يجب ان تنطلق من داخل الانسان التنغيري نفسه وتتشظى لتلامس محيطه وخارجه كذلك، آنئذ يمكن للمدينة أن تحبُو في مدارج الاحتفاء بالمعرفة والقراءة وكل ما ينتج عنهما من تقدم وحرية وازدهار.

قبل أن نختم ببعض الكلمات الاقتراحية التي نعتبرها مخارج حقيقة للخروج من أزمة القراءة بالمدينة، لا بد أن نشير الى أن الأمر لا يتعلق بتنغير وحدها وإنما شأن عويص تعاني منه كل التجمعات البشرية التي تمتد عبر الشريط الجنوبي الشرقي عُموما، اللهم اذا استثنينا – بشكل مُحتشم- بعضًا منها كالراشيدية المركز التي حاولت قبل تعْينها عاصمةً الجهة بسنوات من توسيع قاعدة الاستثمارات في مجال الوعي بالقراءة والمعرفة والنهوض بالثقافة العرضانية والكتاب عمُومًا. وللحد من هذا النزيف الهادر من العزُوف عن القراءة والمعرفة بتنغير تحديدا يجب الأخذ بما يلي :

– لا بد من المُصالحة مع المعرفة والإحسَاس بأهميتها في تنمية الوعي الفردي والجُمَعي؛

– ضرورة الاعتراف بحقيقة أن تنغير لم تكن يوما ما منطقة صناعة الفكر أو النخبة العَالِمة، وأن مثل هذه الأنشطة والمعارض طبيعي أن تلقى هذا البرود بداية حتى يتم التعود عليها سنوات عديدة؛

– العملُ على تقدير المعرفة كآلية استثمارية للوعي بالذات والهُوية معًا، وتصحيح الفكر الأعرج الذي يزرع في ناشئة تنغير أن المال وحده صانع الشخص والحياة وليس المعرفة ولا التعلم؛

– العمل على دفع المُستثمرين في المدينة نحو الاستثمار في دُور المعرفة والنوادي الثقافية والمكتبات وغيرها مما يمكن أن يشجِّع القراءة والتعلم، بعيدا عن تناسل المقاهي والخمّــارات؛

– انفتاح مثل هذه المعارض – الهادفة – على نخبة الهامش من المعطلين والطلبة والتلاميذ وعُموم الناس البسطاء، وتخفيض سعر الكتاب حتى يكون مُحفزا لاقتنائه  بما يتناسب والقدرة الشرائية.

– دفع الناشئة إلى تذوق حلاوة الكتب وتسخير الوسائل التكنولوجية الحديثة في سبيل القراءة والبحث الهادفين؛

– ضرورة تصْحيح التمثلات الخاطئة حـول المعرفة وأهل العلـم عُموما، وإفهام تنغيـــر أن السّعادة في الحياة لا يمكن الوصُول إليها أبدا بعبــادة المال وتكديــسه.

المصدرمحمد بوطاهر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.