التّصويت الانتخابي بين القبُول والرفض

admin
اقلام حرة
admin1 أكتوبر 2016
التّصويت الانتخابي بين القبُول والرفض
محمد بوطاهر

مع اقتراب أي موعد انتخابي، يشتعل جدل عويص حول عملية التصويت ومعها التسجيل في اللوائح الانتخابية. فقد ثبت في عرف القانون الانتخابي أن عدم التسجيل القبلي في اللائحة، يؤدي مباشرة إلى الاقصاء من فعل التصويت، لذلك يزيد صخب البعض ويكثر الهرج والمرج بين مطالبين برفض كلا العمليتين معا؛ أي التسجيل والتصويت، وبين من يهتف عاليا بضرورة ممارسة هذا “الحق” الانتخابي، باعتباره المنفذ الأساس لأي تغيير مأمول. بين الرفض والتأييد لهذا الأمر، نفصل الكلام؛ مبينين الرأي الأقرب للصواب.

 كي نكون منطقيين أكثر، يجب علينا الانطلاق من مسلمات الواقع ونكون لصيقين بأحواله ووقائعه. إداك يتسنى لنا الوصول الى أحكام أكثر  واقعية و ارتباطا بما نعيشه. فالانتخابات عملية منهجية تدخل ضمن سيرورة العمليات الديمقراطية في أي بلد كيفما كان، وبالتالي فتكرارها في مواعيد مختلفة يعتبر درسا مفيدا، يستفاد منه وتستخلص منه استدراكات كثيرة وأجوبة. فما جدوى الانتخابات إذن، إذا لم تستطع أن تجيب لنا عن سؤال الأصلح والكفء في الفرد والجماعة؟ أليست منهجا ديمقراطيا يتم به فرز الطيب من الخبيث؟ ثم إذا تولينا صفحا عن العملية الانتخابية وهجرناها، هل لدينا بدائل أخرى أنجع منها؟

للإجابة عن كل ذلك، يكفي أن أسوق واقعة امتناع عدد من ممثلي الشعب والنقابات عن التصويت عن مشروع التقاعد وهروبهم من الجلسة، يوم28 يونيو 2016، زاعمين أن تصرفهم إنما هو رسالة استنكار ورفض للمشروع ككل. وقد انتهت الواقعة بالمصادقة على المشروع انطلاقا من أصوات الحاضرين الذين شكلوا الأغلبية(27 صوت فقط). فالتدبّر  مليا في فعل الانصراف/الهروب، يتبين أنه تأييد بمعنى آخر؛ أي أنا ضدك شكلا معك مضمونا، أعارضك وأنصرف تكتيكيا وتحَايُلا لأمنح لك هامش التصرّف والمصادقة وفعل ما تشاء. إنه قمة المكر والخداع السياسي الذي يمكن أن يحافظ به الشخص/الجماعة على تعاطف الناس معه، وفي الوقت نفسه ينتعش مع التماسيح والعفاريت الحكوميين الذين يسلخون الشعب حيًّا، وهم حامدين الله شاكرين.

مثل هذا الأمر ينطبق على التصويت الانتخابي تماما، فعدم انجاز فعل التصويت/الاقتراع، يمنح فرصة ذهبية للخصوم كي يستبد بالوضع ويغزوه يمينا ويسارا بدون منازع. وهذا ما وقع في مثل هذه التشريعات السابقة قبل ست سنوات، حيث دفع كره الناس لرائحة الإسلاموين التي تتشابه كثيرا  مع رائحة الداعشيين، إلى النفور من فعل التصويت وتركوا الكلمة الفصل لمريديهم فتم نجاحهم انطلاقا من غياب الاخرين، فليست الكثرة ولا الأغلبية هي التي تفرز النجاح دائما،  وإنما للغياب وعدم المشاركة يد طولى في ذلك. 

قد يقول قائل أن الدعوة إلى إنجاز في فعل التصويت، هو طرح الدولة والمخزن بكل ما يحمله هذا المصطلح من دلالات التسلط والتزوير والغصب، هذا الأخير الذي تستفزه المقاطعة الانتخابية وتقض مضاجعه كل صيحة تنادي بذلك. لكني أقول وبشكل بسيط، إن الوقوع في طرح المخزن بكل عِلّاته أهونُ من الوقوع في مخالب هذه الحكومة الغاشمة.  فالدعوة الى الاقتراع يوم 7 شتنبر ليس نابعا من الاقتناع الراسخ بالتدبير الجيد للعملية الانتخابية في البلد، وإنما من خوف السقوط في لعبة ترك الميدان فارغا للوجوه الجاثمة، التي تغتنم الفرصة ثانية وتصوت بينها لنفس الحزب الملعون. فإن فهمت جيدا أن عدم التصويت يوم الاقتراع هو التصويت بالخُلْف – بمفهوم المناطقة-، فإنك ستدرك لا محالة أنك ومن تعارض سواء؛ شريكان في اللعبة نفسها سلبا وايجابا.

ثم إن عاند القائل ثانية وقال أن الدولة هي مالكة كل التفاصيل في العملية الانتخابية وهي التي تعلّي من تشاء في الأحزاب وتذل من تشاء، وان على الضمائر الواعية التقدمية التحررية أن لا تدنس أياديها البيضاء في لعبة صنعتها الدولة لتحرث المشهد السياسي للبلد كيفما تشاء، فإني أقول أكبر من ذلك وأؤكد أن فعل التصويت نابع من العزم على التغيير، وإن ثبت فعلا أن المسار الصحيح للنضال والتنمية الشاملة في هذا البلد يقتضي الامتناع عن التصويت لكل الشبهات التي ذكرت، فإنه من الأجدر أيضا أن لا يتوغل من يرفض العملية الانتخابية في دواليب الادارات ومؤسسات الدولة ويتقاضى رواتب وينعم بقليل ما تجود به عليه، وفي الوقت نفسه ينتقدها نفاقا بلا حجة ولا دليل, فلا يعقل أن تهجو بعض أصابع اليد التي تمنحك الطعام وهي منها. فعين العقل هو أنك حين ترفض الجزء يجب أن ترفض الكل، أي حين تمتنع عن التصويت وتشك في قدراتك على التغيير انطلاقا من منفذ الاقتراعات، فإنه يلزمك -ضمنيا- ان تصبح بُوهيميا وترفض البطاقة الوطنية والانتماء وكل ما يربطك بالدولة الفاسدة، آنئذ يكون لكلامك طعْم صِدقٍ ووجوب احترام.

إن الدعوة إلى المقاطعة الانتخابية دعوة مغلوطة انطلاقا مما وضحناه أعلاه، وبالتالي فالتغيير لا يأتي من الهامش وإنما من قلب التغيير نفسه؛ تماما كالطائر الفينيقي الذي يُبعث ثانية من رماده، فلا معنى للمقاطعة والرفض خارج الانخراط الفعلي في ترجمة ذلك وجعله ملموسا بقطع الطريق أما وصول الخصوم وتربعهم من جديد على سدة القرار الحكومي. يجب إذن الاشتغال منهجيا بالآليات المتاحة، حتى لو كانت عقيمة ومغشوشة كما يعتقد البعض، (مواجهة ما يمكن مواجهته بمفهوم النهج). فعدمُ ايجاد البدائل الحقيقية والواقعية التي تُمكّن الشعب من تحقيق مُبتغاه، يفرض جدلا، التعامل مع ما هو متاح. وإذا كان التيار الرافض لفعل التصويت يتحجّج بكون الانتخابات مسرحية ولعبة متحكم فيها من طرف النظام، فعليهم تقديم حلول واقعية يتمُّ بها تحقيق الرفض بدون الوقوع في خطيئة المشاركة في لعبة النظام كما يدعون.

إن النزوح نحو المشاركة في لعبة النظام الانتخابية، من خلال هذا الفهم الذي نتبناه، ضرورة فرضتها المرحلة وكل ذلك الحقد الذي يحمله المجتمع للحكومة الملتحية، ومتى تَحقّق شرط المقاطعة الشمولية وشرْط البدائل الموضوعية التي تسمح بالتغيير خارج هذه المشاركة، فآنئذ يمكن التشبث بالرفض ونعت الدولة بكل ما يحتويه المعجم السلبي من كلمات قدح وتجريح، بل وتذكيرها بسجل ماضيها الأسود. أما الامتناع بدون تقديم منافذ الاغاثة، فذلك وهْمٌ دعا إليه نَفرٌ  منذ القديم وطبّقُوه دون ان يغيروا به شيئا.

قديما تشبعنا أيام الوهج الجامعي بفكرة أن من يمارس قد يخطئ، ومن لا يمارس فهو مخطئ أصلا، ويقصد بالممارسة تلك، الانخراط العملي في الفعل النضالي التجريبي. وأعتقد أن هذه الفكرة مازالت تؤتي أكلها وتتجسد في فعل التصويت الان وبشكل واضح للواهمين بأن الرفض/المقاطعة هو ضد نجاح الخصوم، أما المتحايلين أمثال البرلمانيين والنقابات الذين يَدْعُون الى المقاطعة جهارا ويصوتون سرا بترك مكانهم فارغا للآخر، فإنهم يقولون ما لا يفعلون وكان ذلك عند الله مقتا كبيرا.

……………………….

المصدرمحمد بوطاهر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.