عاشقة المرآة

admin
2016-01-11T20:43:41+01:00
اقلام حرة
admin4 يناير 2016
عاشقة المرآة
عبد الحكيم الصديقي

(الحلقة الأولى)

نَظَرتْ مرارا إلى مرآة سيارتي فهي تعشق النظر فيها .. تَأملتْ في تقاسيم وجهها الفاتن الجميل ولامسته بكفيها بلطف .. وفجأة كسرت كل حواجز الصمت وعوائق الخوف .. أدارت وجهها نحوي .. أخذت نفسا عميقا وراحت تحكي..

أنا أعي جيدا أن حياتي ليست مثالية .. نعم أثير رغبة الرجال وحسد النساء، لكن على الرغم من هذا يلفني ضجر لا يوصف وأكتم غصة دامية في فؤادي، وآهات تكاد تقطع أحشائي…

كان كلامها على أشده .. وكنت أتابع بشغف وصمت يمتزج بالخوف كل ما تنطق به شفتاها ويعبر عما يجول في خلجات نفسها..

قالت: كنت شابة يافعة مندفعة .. الكل يتحدث عن جمالي ورشاقة بدني .. تنجداد يا سادتي تتحدث عن عاشقة المرآة بأكثر مما ينعكس في المرآة .. وأنا في طريقي إلى الإعدادية كنت متعودة أن أسمع وأستمتع بالشباب الذين يَأْسِرُونَنِي بجميل الكلمات، وبرجال يًقَيدُونَنِي بلطيف العبارات، ويَكْسُونَنِي من الثناء حُلة، ويَهْدُونَنِي من بين الشوْك فلة.. فألقي بعيني على من أحب منهم.. بنيت بآمالي القصور، وسكنت بأحلامي الدور، وشيدت في عالمي الأبراج..

سكتت قليلا ..أشعلت سيجارة وارتشفت كأسا ثم تابعت:

كان أبي غائبا طوال الوقت، فهو منشغل بعمله خارج مدينة تنجداد ليوفر لنا لقمة العيش.. تعرفت في تلك اللحظة بسعاد وهي فتاة تكبرني سنا.. أدخلتها إلى منزلنا وتعرفتْ بوالدتي وأسرتي الصغيرة.. كانت سعاد هي النقطة التي أفاضت كأس حياتي وغيرت مجراها .. علمتني كل شيء، رقص وخمر وجنس ومال .. كيف أعاكس هذا.. وأضحك مع هذا.. وأمني هذا .. وأعد هذا .. وأكذب على هذا .. وأسمع قصائد الغزل من هذا .. وهكذا دواليك … أدخلتني معها إلى حانات مدينة تنغير .. اكتشفت عالما آخر .. الكل يراودني عن نفسي وبأي قيمة مالية أطلبها..

كانت تجارب مثيرة ناسبت روح المغامرة عندي ولكنها لم تكن خالية من الشقاء نظرا لأنني فقدت شيئا كبيرا في حياتي كأنثى .. لقد فقدت عذريتي للأسف…

كلماتها تعبر عن حزن وحسرة، رَجَعَتْ عَاشِقَتُنَا بذاكرتها إلى الوراء.. تلك اللحظة التي فقدت فيها عذريتها مع رجل من رجال الدرك الملكي بتنغير … تلك اللحظة التي سيصل خبرها إلى آذان والدها.. تلك اللحظة التي ستطرد فيها من دفئ أسرتها… وتلك هي أحداث الحلقة الثانية…

(الحلقة الثانية)

حياتي حافلة، مليئة بالأحداث، فأنا عشت في الحياة عدة حيوات .. أو هكذا يخيل إلي .. لا أدري..

كنت أرى ذلك الدركي منذ مدة في حانة تنغير المعروفة، وعلامات الإعجاب على محياه، حتى جاءني ذات يوم قلقا متوجسا، فهَدأْتُ من روعه وسألته عن أحواله .. لقد بدا بَادِئَ ذِي بَدْءٍ في حيرة .. قلت له ألا يخجل من شيء، وأن يتحدث بكل طلاقة وكأنه يحدث نفسه.. انطلقت كلمات الغزل من شفتيه كما ينطلق الفارس شاهرا سيفه في ساحة الوغى .. تَتَّبِع عيناه عيناي كما يَتَّبِعُ نبات عَبٍاد الشمسِ الشمسَ .. قال لي إنه معجب بي ويريد أن يتعرف على عاشقة المرآة .. ألقى عصى الحنان والحب علي فَخُيلَ إلي من سحرها أنها روح تسري في جسدي، لكن هو في الحقيقة…

صمتت قبل أن تكمل بقول مُتَحَشْرِج: سم أفعى يسري في دمي إلى الأبد .. يقتلني كل يوم ألف مرة…

تنهدت بأسى وهي تُحَمْلِقُ في مرآتها بنظرات تائهة، انسلت عيناها من النظر في المرآة بهدوء، ومن نافذة السيارة راحت عيناها تتفحصان السماء الممتدة بلا نهاية:

“لا تزال السماء رحيمة، أَوَ ليست كذلك يا حبيبي؟”

تَمْتَمَتْ بها وهي تمسح دموعها بأطراف أصابعها، عانقت ابتسامة حزينة شفتيها وهي تستعرض ما آل إليه حالها .. والفجوة الكبيرة بين الأمس واليوم، حركة الأمس التي لا تفتر وروتين اليوم الذي لا يتبدل…

أدارت وجهها نحوي .. شعرت بأنها تمالكت نفسها وتستعد لمتابعة الحديث:

أخذ رقم هاتفي ليلتها، بعدها بدأت أطيل الحديث معه بحجة التسلية .. والقضاء على ساعات الفراغ .. كان يدور بيننا حوار يومي ولساعات طويلة حتى تعزف أوتار النسيم ترانيم الفجر الساحرة.. بعد فترة وجيزة صارحني بحبه لي .. ترددت في البداية .. ولكنني بعد تفكير لأيام اكتشفت بأنني متعلقة به .. تكرر اللقاء بيننا مرات عديدة إن في الحانة أو في مسكنه .. وكنت في كل مرة أعود محملة بسعادة تسع الدنيا بمن فيها .. خلال تلك اللقاءات كنا نتبادل ألحان الحب والقُبَل المعزوفة على أوتار الخمرة ولا شيء غيرها .. كان يعلم أنني لا زلت عذراء بريئة .. فجأة سكتت..

ما بال حبيبتي العاشقة سكتت؟.. اقتربت منها ورحت أتمسح على شعرها وخديها بحنان .. عندما حدقت في عينيها الغارقتين في عمق الزمن، شعرت أنها تخفي أمرا لا ترغب بالبوح به، وإن كانت كلماتها تفعل أحيانا، لكنني لم أملك غير الصمت الصارخ أعبر به عن رفضي لتلك التلميحات…

قالت بصوت مثقل بالتلميح: لحظات من الماضي كئيبة .. لا أعرف كيف أذكرها ولا أرغب في أن أتذكرها .. وجدت نفسي بحلة ثانية..

هنا انقدحت في ذهني حكمة فقلت: كما ترين، فإن اللحظة الحالية هي كل ما كان وكل ما سيكون، وعندما تدركين هذه الحكمة، فلن يبقى ما تخشين منه، وتحزنين لأجله، وعندها يمكنك مغادرة سجن الماضي بلا رجعة..فنحن أبناء اللحظة الراهنة…

أيها الحبيب الحكيم إن مشكلتي الأولى هي جسدي، فما كنت أتلقى في حياتي كان من خلال قناة الجسد، وتلك هي علة غروري .. ولطالما تعذبت وتدحرجت في المتاهات باحثتا عن راحة النفس لدى جاذبية قوامي ورشاقة جسدي .. أَواهٍ يا رباه رحماك أين أم كيف أجد الراحة لكياني..؟ قالت ذلك وعلى وجنتيها دمعة ندم ساخنة .. ثم استدركت قائلة:

دعك من هذا ولنعد إلى موضوعنا .. ذات ليلة من ليالي الأنس والسهر في منزل عشيقي الدركي.. احتسينا كؤوس الخمر على أنغام الموسيقى .. لم أكن معتادة أن أحتسي كمية زادت عن الحد الذي أحتسيه عادة في الليالي السابقة.. ضحكاتنا ترن في الهواء.. رأيت وأنا في قمة الثمالة أمرا عجيبا حقا .. رأيت الدركي كأنه كوكب دري يزهر في الأفق الأعلى .. ثم دنى مني فتدلى، حتى كان قاب قوسين أو أدنى .. قبلني على شفتي .. كانت قبلة طويلة لها طعم خاص .. لامس نهدي للمرة الأولى .. بدأت أصرخ لا أدري أمن وجع الخوف أم من لذة اللمس .. خلع ملابسي على حين غفلة .. رمى بي على السرير .. أتوسله أرجوه ألا يفعل أكثر مما تعود على فعله معي .. وفي لحظة ضعف استسلمت لوحشيته .. آآه فقدت عذريتي، وفقدت معها حياتي وكرامتي وكل شيء.. بعد أن وقع ما وقع أخذ يواسيني ويؤكد أنه سيجد حلا وبأسرع وقت ممكن .. رجعت إلى منزلي مكسورة.. حزينة.. عشت أياما لا أطيق فيها رؤية أحد.. كان يكلمني كل يوم ليطمئن على صحتي .. بعد حوالي أسبوعين بدأت أستعيد صحتي.. وأهدأ تدريجيا.. اتفقت معه أن يزور أهلي ليطلبني للزواج.. لكن وقع ما لم يكن في الحسبان..             

 

المصدرعبد الحكيم الصديقي

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.