أعطاب التعليم.. متى تخرج المدرسة من حالة الإفلاس؟

admin
آخر الأخبارتربية و تعليم
admin20 سبتمبر 2015
أعطاب التعليم.. متى تخرج المدرسة من حالة الإفلاس؟
أحمد امشكح
ما جاء على لسان رئيس المجلس الأعلى للتعليم قبل أيام حول وضعية قطاع التعليم ومستقبله المظلم صراحة ووضوحا لا تخرج عن كونها تحصيل حاصل. الحكيم المكلف بوضع خارطة طريق إصلاح المدرسة المغربية يصف الوضع بالكارثي والذي يهدد المغرب والمغاربة بالمزيد من الأمية والبطالة والفقر والإقصاء. هذه الصورة القاتمة معروفة لدى الجميع، أسرا وتلاميذ وأساتذة ومهتمين، الكل يدرك أن مدرسة المغرب التي كانت في حقبة من الحقب توفر الحد الأدنى من التكوين والتأطير، وتضمن ظروف تلقي وتعلم إنسانية وتزرع نصيبا من القيم الوطنية والدينية لم تعد قادرة على أداء ولو جزء يسير من هذه المهام وغيرها. السيد عمر عزيمان انكب رفقة أعضاء مجلسه التسعة والتسعين على تدارس وضعية القطاع قبل شهور وتمخض عملهم عن تقرير أطلق عليه عنوان «الرؤية الاستراتيجية للمدرسة ؟؟؟
هذه الخطة والتقارير الموضوعاتية المصاحبة لها لا تختلف في الحقيقة عما سبق إنجازه سابقا من تقارير وخطط سواء تلك التي تكلف بها المجلس الأعلى للتعليم أو غيره من الهيئات، لكن المعضلة لم تكن لا في التشخيص ولا في اقتراح الخطط والبدائل، بل آفة إصلاح المدرسة المغربية أن كل البرامج تصطدم بواقع التطبيق بكل الإكراهات السياسية والثقافية والمادية التي يواجهها. خطة عزيمان أو خطة غيره محكومة بالقرار السياسي الصادق الذي يرغب فعلا وقولا في إصلاح المدرسة والرقي بها كمؤسسة لا محيد عنها من أجل تحقيق التنمية والازدهار. لكن إذا عدنا إلى الوضعية الكارثية التي تحدث عنها عزيمان ندرك فعلا أننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من غرق سفينة المجتمع.
أكثر من 300 تلميذ يغادرون سنويا المدرسة دون دبلوم أو تأهيل، آلاف المدارس الابتدائية في العالم القروي لا تزال خارج الارتباط بالمرافق الصحية، فتيات قرويات ينقطعن عن الدراسة لأسباب تافهة كالمرحاض أو النقل، ضعف فظيع وكارثي على مستوى مهارات التعلم لدى التلاميذ المغاربة كما تثبت ذلك روائز دولية كـ«بيرلز» و«تيمس»، خصاص مهول في الأطر التربوية والإدارية يتفاقم عاما بعد عام رغم كل إجراءات الاحتفاظ بالموظفين بعد تقاعدهم، انفصال تام للمدرسة عن محيطها الاقتصادي والاجتماعي، فشل بيداغوجي رغم تجريب كل النظريات المستوردة التي حولت تلاميذنا إلى حقول تجارب، قطاع خاص يستغل فشل التعليم العمومي ويقدم خدمات هزيلة بأقساط خيالية…هذه العناوين وغيرها كلها تلخص جزءا من الوضعية الكارثية التي يتحدث عنها الجميع، وجانبا من أعطاب تعليمنا العمومي والخصوصي على حد سواء.
الكارثي أكثر هو أننا خارجون لتونا من برنامج إصلاحي للمنظومة التعليمية استنزف أكثر من 33 مليار درهم والذي اشتهر بالمخطط الاستعجالي. منطق الاستعجال الذي تم التعامل به مع المنظومة التعليمية لم يكن في الحقيقة إلا قناة إضافية لتصريف ملايير الدراهم دون حسيب أو رقيب وخارج إطار القانون كما بينت ذلك بعض الافتحاصات التي قامت بها وزارة التربية الوطنية بعد توقيف المخطط. يكفي أن نتذكر جميعا فضيحة المؤسسة التعليمية الوهمية التي دشنت في سلا، وخصصت لها ميزانية ولجان مراقبة وهي لم تبن من الأصل. ما يلزمنا في الحقيقة هو إصلاح الإصلاح قبل تطبيق مبادئه وبنوده على المدرسة العمومية، فكل إصلاح لن يجد له أي صدى على أرض التعليم القاحلة ما لم يحظ بإجماع المعنيين بالميدان وأهل الاختصاص، والحال أن المجلس المعين، أقصد المجلس الأعلى للتعليم، لا يمثل أي مرجعية ديمقراطية ولا أحد يعرف كيف تم انتقاء أعضائه حتى يبتوا في موضوع جد حساس ومصيري بالنسبة لأبناء المغاربة. الرؤية الإصلاحية الجديدة مهما كانت طموحة لن تعدو أن تكون أفكارا مستوردة وعناوين متفائلة إذا لم يتم الإشراك الفعلي للتلميذ والأستاذ والمدير والأسرة والمجتمع وكل شركاء المدرسة.
الإفلاس الذي وصلت إليه مؤسسة التعليم ليس معطى جديدا بل أصبح ملاحظة متقاسمة بين الجميع، بل إن جل التعثرات التي يعيشها مغرب المشروع الديمقراطي الحداثي تعود أساسا إلى عدم تأهيل المنظومة التعليمية التي تبقى وحدها القادرة على خلق المناخ المناسب لأي تحول اقتصادي أو ثقافي أو حتى سياسي. المشروع الديمقراطي الحداثي الذي ترفعه الدولة منذ سنوات يتوقف على مدرسة منصفة وفعالة ومواكبة للمستجدات والتطورات التي تعرفها الساحة العالمية. مدرسة ينسجم فيها التعليم المدرسي مع التعليم العالي، وتتلاءم فيها المضامين المعرفية والعلمية مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي والقيمي للمغاربة. مدرسة جديدة تراعي هوية المغاربة وقيمهم ولغاتهم الوطنية قبل أن تنفتح على الآخر ولغته وثقافته.
أزمة الثقة تعمق الهوة بين المدرسة والمجتمع
التعليم خسر تعبئة الأسر لأنه لم يعد يضمن مستقبلا مهنيا
04
تعاني المدرسة العمومية اليوم من ضعف كبير في انخراط الفاعلين والمتدخلين فيها والمعنيين بها، بل وفي تعبئة المجتمع ككل من حولها. وبعد أن كانت المؤسسة الأكثر احتراما وتقديرا من الناحية الاجتماعية أضحت الأكثر تعرضا للانتقاد والتشويه بسبب التراكمات السلبية التي حققتها. وارتقت هذه الوضعية إلى حالة من انعدام الثقة خصوصا وأن جل الفئات الاجتماعية لا تزال لا تقدر الدور الحيوي والحاسم الذي تلعبه المدرسة في تحديد مستقبل البلاد.
ويعزو عدد من الفاعلين التربويين انعدام الثقة في المؤسسة العمومية إلى انغلاق هذه الأخيرة وعدم انفتاحها على محيطها بفعل عدم تعبئة الأسر وإتاحة الفرصة أمامها للانخراط الفعلي في الحياة المدرسية. ورغم التجربة الطويلة لجمعيات آباء وأولياء التلاميذ لا تزال هذه الأطر المدنية عاجزة عن صياغة شراكة فعلية بين المدرسة والأسرة والمجتمع. كما أن عدم تمكن المدرسة من ضمان أفق مهني لخريجيها زاد من واقع انعدام الثقة وأضحى الخطاب السائد حول التربية والتعليم متشائما وسلبيا إلى درجة الهوة بفعل تقلص أدوار المدرسة في تحقيق الاندماج الاجتماعي.
فجوة التواصل
وقد كشفت العشرية الأولى من تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين عن فشل كبير في تعزيز العلاقة بين المدرسة ومحيطها وخصوصا علاقة المدرسة بالأسرة. وفي هذا السياق يؤكد الميثاق الوطني للتربية والتكوين أن على المربين والمدرسين في إطار الواجبات والمسؤوليات المرتبطة بمهمتهم «إمداد آباء التلاميذ وأوليائهم بالمعلومات الكافية لقيامهم بواجباتهم وإعطائهم كل البيانات المتعلقة بتمدرس آبائهم».
وتعتبر الأسرة شريكا لا غنى عنه بالنسبة لأي نظام تربوي. وتتجلى هذه الشراكة من خلال جمعيات آباء وأولياء التلاميذ التي ينص الميثاق على ضرورة نهج الشفافية والديمقراطية والجدية في تنظيمها وانتخابها وتسييرها. ورغم أن هذه الجمعيات تطورت عدديا حيث أن 81 في المائة من المدارس الابتدائية و94 في المائة من الإعداديات و93 في المائة من الثانويات التأهيلية تتوفر عليها، إلا أنها لم تحقق التطور ذاته من الناحية النوعية وظلت مجرد هياكل فارغة من المحتوى وعجزت عن سد الهوة الموجودة بين المدرسة والأسر. وفي غياب معطيات وطنية وتقارير رسمية حول طبيعة وحجم العلاقة القائمة بين المدرسة والأسرة تكشف بعض التقارير الدولية ومنها البحث الدولي المتعلق بالتحصيل الدراسي للتلاميذ في الرياضيات والعلوم والبحث الدولي حول القراءة المجرى سنة 2011 أن جل المدرسين لم يلتقوا أبدا بآباء وأولياء خمسة تلاميذ السنة الرابعة ابتدائي بالنسبة للبحث الأول وسدس التلاميذ من المستوى نفسه بالنسبة للبحث الثاني.
كما أكد أكثر من نصف التلاميذ الذين شملهم البحث أن مدرسيهم لا يرسلون للآباء أية تقارير خاصة بالتعلمات كما اعتبر المدرسون أن مشاركة الآباء في الحياة المدرسية لأبنائهم في المستوى الابتدائي تتأرجح بين مستوى ضعيف وضعيف جدا.
مدرسة بدون ثقة
يعود تعمق الفجوة بين المدرسة والأسرة وبينها وبين محيطها عموما إلى اهتزاز صورتها كمؤسسة ضامنة للارتقاء الاجتماعي. فبانحسار جودة التعليم ومحدودية الآفاق التي يتيحها تراجعت ثقة الأسر في المدرسة وأصبحت بالنسبة للكثير منها مجرد مؤسسات حراسة مؤقتة تضمن للآباء والأمهات اطمئنانا على أبنائهم وهم بعيدون عنهم بغض النظر عن الآفاق الاجتماعية والمهنية. هذه الصورة المهتزة التي أضحى المجتمع يحملها عن الأسرة ساهمت في تعميق أزمة التعليم وتراجع إمكانية إصلاحه بالنظر إلى أن أي مشروع إصلاحي لا يمكن أن يحقق أهدافه إلا انطلاقا من تحقيق تعبئة مجتمعية حقيقية حول المدرسة ودورها الحاسم في بناء المستقبل.
فبالنسبة للكثير من الفئات الاجتماعية لا تعدو المدرسة أن تكون مجرد أداة لإعادة إنتاج الفوارق بعيدا عن أدوارها المثالية التي رسمت لها وغاياتها الأساسية التي بنيت من أجلها. كما أنها مؤسسات لا تقدم الدعم اللازم للمتعلمين من أصحاب الحالات الخاصة وتفشل غالبا في إنقاذ من يعانون من صعوبات التعلم. كما أن المحيط المدرسي لم يعد يحمل تلك الصورة الإيجابية والجذابة فكثيرا ما تحمل المدرسة صورة البنايات المتدهورة، والنوافذ المكسورة والمرافق والتجهيزات المحدودة. زيادة على تنامي مختلف الظواهر الاجتماعية السيئة داخل الفضاء المدرسي كحالات العنف والجريمة والإدمان، كل هذه الظواهر وغيرها ساهمت في اهتزاز صورة التعليم والمدرسة وأفرغتها من محتواها وعمقت من تقاعس الأسر عن أداء واجبها في دعم المدرسة والتعبئة من حولها.
وينضاف اهتزاز الصورة والثقة في المدرسة إلى كون فئات مجتمعية واسعة لا تزال لا تقدر بما فيه الكفاية الرهانات الأساسية المرتبطة بالتربية والتعليم مما يجعلها أقل انخراطا في كل القضايا المتعلقة بتعليم أبنائها. ولقد فشلت كل التجارب السابقة في تكريس هذه الثقافة التي تؤكد على أهمية التعليم ودوره في تحسين ظروف السكان والرقي بهم. وإذا كانت بعض الأسر التي يمكن اعتبارها نخبا مهتمة بمستقبل أبنائها التعليمي تتجه نحو العروض التعليمية الخاصة التي توفر حدا من التواصل مع الأسر، فإن ذلك ينعكس على المدرسة العمومية على سبيل المثال التي تحرم من إمكانية مساهمة هذه النخب في تعزيز العلاقة بين المدرسة والمجتمع.
وتساهم المدرسة عن قصد أو غير قصد بدورها في تعزيز الهوة بينها وبين المجتمع، فهي لا توفر سوى قنوات محدودة لتعبئة الأسر والمجتمع بشكل لا يكفي من أجل الرقي بها وإبلاغ احتياجاتها وانتظاراتها لشركائها. فالفضاءات المؤسساتية التي تنص عليها القوانين مثل مجلس التدبير لا يتجاوز دوره وعمله الجوانب الإدارية وقلما يحقق عملية التواصل المطلوبة بين المدرسة وبين محيطها، ليس الأسر فقط ولكن كذلك باقي الشركاء كالجماعات المحلية.
وأضحى الواقع ملحا لإرساء تعاقد جديد بين المدرسة والمجتمع من منطلق أن المنظومة التعليمية ليست مجرد مدرس وتلميذ وفصل دراسي بل هي مجتمع متضامن يحتاج إلى مساهمة الجميع.
كيف أصبحت المدرسة المغربية حقل تجارب للمناهج التعليمية
05
منذ جاءت حكومة بنكيران لتدبير الشأن العام لقرابة أربع سنوات، سقط المنهاج التربوي الذي كانت تعتمده المدرسة المغربية.
ويذكر المغاربة كيف أن الوزير محمد الوفا، الذي قال إنه جاء لكي يلغي كل ما حمله سلفه في هذا القطاع، أجهض على بيداغويجا الإدماج التي حملها المخطط الاستعجالي لسلفه أحمد اخشيشن. وزاد في الاجتهاد حينما أغلق أبواب مدارس التميز، التي قال إنها قد تعيدنا إلى عهد مدارس الأعيان. وفتح النار على كل مشاريع المخطط الاستعجالي، على الرغم من أنه كلف وقتها خزينة الدولة 41 مليار درهم. وهو ما يعني بلغة الأرقام زيادة بنسبة 33 في المائة عن الميزانية التي تخصص في المعدل لقطاع التربية والتعليم. كما يعني 28 في المائة من الميزانية العامة للدولة، و7 في المائة من الناتج الخام الوطني.
من يومها، ظلت مدرسنا تائهة لا تعرف ما تقدم ولا ما تؤخر. والحصيلة هي أن كل مدرس ظل يشتغل بما يراه مناسبا لتلامذته.
لقد راهن المخطط الاستعجالي على بيداغوجية الإدماج بعد أن وظف لها إمكانيات مالية محترمة، لأنها تجعل المتعلم قادرا على «توظيف عدة تعلمات سابقة منفصلة في بناء جديد متكامل وذي معنى. وغالبا ما يتم هذا التعلم الجديد نتيجة التقاطعات التي تحدث بين مختلف المواد والوحدات الدراسية. هذا مع أحقية المتعلم في الخطأ. والمراد به ألا يعتبر الخطأ في إنجاز المتعلم عملا سلبيا، بل يكون منطلقا للبيداغوجيا العلاجية التي توظف الخطأ، إيجابيا، وتعتبره دليلا وأداة كشف عن آليات التفكير عند المتعلم. وهكذا يتم ضبط الخطأ وتحديد مصدره، ثم علاجه بوعي وتبصر من لدن المتعلم».
كانت هذه هي الخلفية الفلسفية التي جاءت بهذه البيداغوجيا، التي كانت قد قطعت في مشوارها سنوات التعليم الإبتدائي، وكانت على أهبة أن تصل إلى حجرات الدرس في التعليم الإعدادي، بعد أن أعدت الوزارة لذلك عددا من الكراسات، التي تم التخلص منها على عهد الوزير السابق، رغم ما كلفته من إمكانيات مالية.
اليوم، ونحن في عز الحديث عن مشروع الإصلاح التربوي سواء ذلك الذي أعدته وزارة السيد رشيد بلمختار، أو الذي هيأه المجلس الأعلى للتعليم والبحث العلمي، لا بد أن نطرح السؤال بشأن المنهجية البيداغوجية التي يمكن أن تصاحبه، خصوصا وأن مدارسنا عاشت بدون بيداغوجيا لأكثر من ثلاث سنوات.
ولسنا بحاجة لكي ندخل تجربة التشخيص قبل أن نضع أسس هذه البيداغوجية، خصوصا وأننا مع كل عملية إصلاح مفترضة، لا بد أن نتوقف أشهرا ومواسم، ونضيع الكثير من الوقت والجهد لكي ننجز ما يصطلح عليه بعملية التشخيص.
لقد شخصنا الوضع، قبل أن ننجز الميثاق الوطني للتربية والتكوين. وقلنا إن داء المدرسة المغربية اليوم، على الأقل في صفوفها الإبتدائية، هو أن الأطفال لا يحسنون القراءة ولا الكتابة ولا الحساب. وأكدنا أن أعدادا كبيرة ممن هم في سن التمدرس، لا يلتحقون بفصول الدرس، أو أنهم يغادرون قبل أن يصلوا المرحلة الإعدادية بنسبة هدرس مدرسي مخيفة.
وشخصنا قبل أن نقوم بإنزال المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم، وقال الخبراء إن الإصلاح يجب أن يرتكز على ثلاثة أسس لا محيد عنها وهي واقع التعلمات الأساسية من كتابة وقراءة وحساب، ومهنة التدريس، بكل ما يعنيه الأمر من تكوين وتوفير شروط الممارسة لكي يؤدي المدرسون دورهم كاملا غير منقوص. ثم هذا الواقع الذي تعيشه البناءات المدرسية، التي تتحول في بعض المناطق إلى إسطبلات بمقاعد مكسرة، وجدران تنزف مطرا.. ومؤسسات تعليمية تفتقد لكل شيء.
ما تنتظره المدرسة المغربية اليوم هو عملية تقويم للمناهج الدراسية لمراجعتها وإصلاحها وتجديدها باعتبارها عملية تعاقدية متقاسمة بين مختلف مكونات وحساسيات الدولة وخياراتها الاستراتيجية الكبرى. لذلك وجب أن تنطلق من إنجاز تقويم شامل ومنتظم لحالة المناهج والمحتويات الدراسية الحالية لقياس مدى مواكبتها للمستجدات، وفق معايير صارمة للربط بين حاجات البلاد الاقتصادية والمجتمعية المستقبلية، وبين الرؤية المتجددة لمتخصصي التربية والتكوين المطلعين على آخر التجارب الدولية في مجال هندسة المناهج التعليمية وتحليلها.
لقد شكل الكتاب الأبيض لسنة 2002، والذي استند إلى توصيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، محطة أساسية لربط تغيير المناهج التربوية بإعادة هيكلة وتوزيع أسلاك ومستويات التعليم المدرسي. وكذا بإعادة تنظيم الزمن المدرسي حيث تم إعادة تنظيم التعليم الابتدائي في سلكين، أول ومتوسط. مع إدماج التعليم الأولي في السلك الأول وإعادة تنظيم التعليم الثانوي إلى سلكين إعدادي وتأهيلي. مع هيكلة هذا الأخير في خمسة أقطاب يحتوي كل قطب منها على عدة شعب. كما تم توزيع السنة الدراسية إلى دورتين عوض ثلاث. والعمل بنظام المجزوءات بالسلك الثانوي، بدل المواد المدرسة ببرامج سنوية. كما تم إحداث مواد جديدة كالإعلاميات. وتوسيع تدريس أخرى كالفرنسية منذ المستوى الثاني ابتدائي. وكذا إحداث مادة اللغة الأمازيغية .
وقد واكب الموجة الأخيرة من مراجعة المناهج توسيع مشاركة أطر مجموع الهيئات المتدخلة وطنيا وجهويا مع الاستفادة من نتائج البحوث التربوية في مجال تخطيط التربية وتدبيرها. وفتحت مديرية المناهج الباب أمام مشاركة الأطر التربوية مع تجربة الكتاب المتعدد. كما تم اختيار ثلاثة مداخل كبرى لتجديد المنهج التربوي، وهي التربية على القيم، وتنمية وتطوير الكفايات التربوية، والتربية على الاختيار. وما بين سنة 2002 و 2007 تم اصدار 381 كتابا للتلميذ و 196 كتاب أستاذ. وارتفع عدد مولفي الكتب المدرسية إلى 2000 مؤلف. فيما انتقل عدد الناشرين من 17 إلى 42 ناشرا. وتكفلت اللجنة الدائمة للبرامج التي أحدثت سنة 2004 بمرسوم وزاري بالمصادقة على انتاجات فرق التأليف المشكلة، قبل أن تتوقف في 2007.
غير أن هذه التجديدات لم تنفع كثيرا في الرفع من جودة التعلمات وتطوير فعالية المنظومة التربوية الداخلية والخارجية. وكذا تحسين صورة المدرسة المغربية لدى المواطنين. وقد أبرزت هذا الخلل المزمن المؤشرات النوعية التي تم الوقوف عليها سواء في نتائج البرنامج الوطني لتقويم التعلمات، وكذا الدراسات الدولية في مجال الرياضيات، أو القراءة. وهو ما يطرح سؤالا عريضا: لماذا لم تحقق مراجعة المناهج والمقررات التعليمية الأهداف النوعية المنتظرة منها؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء تعثر التجديد التربوي بالمغرب؟ وهل سينجح الإصلاح المرتقب في تجاوز هذا الاخفاق.
إنها الأسئلة التي يتداولها أهل التربية والتعليم كلما أثير ملف المناهج. زد على ذلك ما يتعلق بموضوع لغة التدريس، الذي اختلف حوله الكثير من المتدخلين في المجلس الأعلى أو في وزارة التربية الوطنية. ففي الوقت الذي كان الحماس شديدا بشأن إعطاء اللغة الإنجليزية حظها لتكون لغة ثانية بالنظر لكونها لغة العلم والتكنولوجيا. عاد المجلس الأعلى للتربية والتكوين، وهو يضع اللمسات الأخيرة لتقريره التركيبي، ليعيد الفرنسية لغة ثانية ويمنحها فرصا أكبر في المدرسة المغربية.
ميزانية التعليم.. وفرة حقيقية أم ثروة مزيفة؟
600 دولار سنويا للتلميذ المغربي و3 آلاف لنظيره المكسيكي
06
قبل شهور صرح رئيس الحكومة بأن القطاع التعليمي أصبح عبئا على الدولة ولمح إلى ضرورة رفع هذا العبء بمساعدة القطاع الخاص. ومنذ تولي الحكومة الحالية زمام الأمور لم تعد مناقشة مجانية التعليم طابوها من الطابوهات كما كان الحال عليه في السابق. وانضاف إلى هذا التوجه مؤشر مالي واضح يتعلق بتراجع نفقات الحكومة على هذا القطاع بالمقارنة مع آخر قانون للمالية في الحكومة السابقة. هذه الأجواء التقشفية تفتح بابا واسعا من التساؤل والاستفهام عن معضلة الموارد المالية المخصصة لهذا القطاع الاجتماعي الحساس ومدى نجاعتها وكفايتها للاستجابة لاحتياجات الأجيال الحالية والمستقبلية.
تنبئ الأرقام والمعطيات الرسمية عن وفرة مالية كبيرة في هذا القطاع الذي يستأثر بأكثر من ربع الميزانية العامة. هذا المعطى يعتبر ثابتا من ثوابت قوانين المالية على مدى عقود. فقد كان قطاع التعليم أكثر القطاعات استنزافا لموارد الدولة بالنظر إلى حجمه وحجم موارده البشرية التي تعتبر أكبر كتلة موظفين عموميين. في سنة 2011 سجلت ميزانية التربية والتكوين رقما قياسيا غير مسبوق عندما تجاوزت سقف 60 مليار درهم، قبل أن تنزل عن عتبة الستين إلى 59 مليار درهم سنة 2012 وتتردى إلى 56 مليار درهم سنة 2013. وبين سنة 2001 وسنة 2011 ارتفعت الميزانية بأكثر من 37 مليار درهم. غير أن هذه الوفرة الظاهرية تخفي وراءها مجموعة من الاختلالات التي تجعل من ميزانية القطاع مصدر هدر بدل أن تكون عامل إنتاج.
ميزانية مهدورة
تفقد الأرقام السابقة على ضخامتها كل أهميتها عندما ندرك أن أكثر من 80 في المائة من هذه الميزانيات يخصص لمصاريف التسيير بينما لا تتجاوز مصاريف الاستثمار ضمن هذه الميزانية أكثر من 15 في المائة. الجزء الأكبر من ميزانية التسيير تستنزفه أجور موظفي القطاع على هزالتها. هذا يعني استمرار البنيات التحتية والموارد البشرية على حالها وانحسار إمكانيات تطورها بالنظر إلى أن كل هذه الأهداف تتوقف على تخصيص المزيد من الاستثمارات. وفي هذا السياق تظل نفقات الاستثمار دون مستوى تطلعات تطوير هذا القطاع فعلى سبيل المثال لم تتعدى نفقات المعدات والتجهيزات خلال سنة 2011 التي عرفت تخصيص ميزانية قياسية مبلغ 4,4 ملايير درهم.
هذه المحدودية في إمكانيات الاستثمار في تطوير القطاع من خلال الميزانية العمومية تنضاف إلى معضلة أخرى تتعلق بسوء تدبير هذه الموارد. فمعضلة الهدر لا تتوقف عند حدود ضعف الاستثمارات واستنزاف نفقات التسيير وإنما تمتد كذلك إلى غياب الوضوح والشفافية والمعطيات الرقمية الدقيقة. وهذا الإشكال يفتح الباب أمام مزيد من التلاعب والفساد. في هذا الإطار يتذكر الجميع كيف عمدت الحكومة الحالية في عهد الوزير السابق محمد الوفا إلى التوقف عن تطبيق المخطط الاستعجالي الذي خصصت له ميزانية ضخمة تجاوزت 33 مليار درهم استنزفت في ظرف ثلاث سنوات وأثبتت الافتحاصات التي أجرتها الوزارة الوصية أنها لم تستنفذ في المشاريع المعلنة سلفا. هذا الرقم الضخم هو عنوان عريض لمعضلة تدبير الموارد المالية في قطاع التربية والتكوين بشكل عام.
فالهدر يكلف أرقاما خيالية في هذا القطاع. وفي هذا السياق تقدر الخسائر المالية السنوية لهذا القطاع بحوالي 10 في المائة من ميزانية تسيير التربية الوطنية. ففي سنة 2011 على سبيل المثال قدرت خسائر الموارد المالية بالتربية الوطنية بحوالي ملياري ونصف من الدراهم.
موارد لا تصرف
من مهازل التدبير المالي لقطاع التربية والتكوين عدم استنفاذ كل النفقات العمومية المخصصة له في قوانين المالية سنويا. فبين سنتي 2009 و2011 تكشف المعطيات المالية أن النفقات الحقيقية داخل وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي لم تستنفذ في الواقع سوى 57 في المائة من ميزانية الاستثمار المتوقعة ولم تتجاوز النفقات الحقيقية المتعلقة بالمعدات والتجهيزات 67 في المائة خلال الفترة ذاتها. ومن غير المفهوم توقف قطاع اجتماعي أو اقتصادي عن صرف مخصصاته المالية ولا يفسر ذلك إلا بنوع من العجز داخل مصالح الوزارة عن مواكبة التطلعات والاستجابة للمشاريع والبرامج المقررة خصوصا على مستوى بناء المؤسسات التعليمية الجديدة مما يتسبب في الحد من زيادة الطاقة الاستيعابية للقطاع التي يمكن أن تلبي احتياجات المزيد من المتعلمين.
هؤلاء المتعلمين الذين لا تزال معدلات الإنفاق على تعليمهم من بين الأدنى على الصعيد العالمي كما تشير إلى ذلك مختلف تقارير التنمية البشرية. فرغم كل التطور الذي عرفته الميزانية رقميا إلا أن توزيعها على المتمدرسين لا يزال في مستويات هزيلة إذ لم تتجاوز تكلفة التلميذ المغربي في الابتدائي 4800 درهم سنويا سنة 2011. ولا يعكس هذا الرقم تطورا في المجهود المالي المخصص للقطاع بقدر ما يعكس انخفاض أعداد التلاميذ المتمدرسين في المستوى الابتدائي. ولم تعرف تكلفة التلميذ في المستوى الثانوي الإعدادي تطورا كبيرا ما بين 2001 و2011 فعلى عقد كامل انتقلت هذه التكلفة من مبلغ 4595 درهما إلى 5401 حسب ما كشفت عنه معطيات المجلس الأعلى للتعليم في أحد تقاريره الاستراتيجية. وإذا كان انخفاض أعداد التلاميذ في الابتدائي قد ساهم في الرفع من تكلفتهم، فإن ارتفاع أعداد التلاميذ في المستوى الثانوي التأهيلي زاد من محدودية التكلفة المخصصة لهذه الفئة. إذ لا تنفق الدولة أكثر من 6000 درهم على تلميذ الثانوي التأهيلي بعد أن كان هذا الرقم في مستويات أعلى في سنوات ماضية. معدلات الإنفاق هذه تصبح صادمة عندما تقارن بما هو الحال عليه في مختلف بلدان العالم، فقد تفوقت الولايات المتحدة على هذا الصعيد سنة 2010 عندما بلغ معدل ما تنفقه على المتعلم الابتدائي سنويا 15 ألف دولار، بينما جاءت سويسرا بعدها مباشرة بـ14 ألف دولار، في حين لم يتجاوز ما تنفقه الحكومة المكسيكية على التلميذ في هذا المستوى 3 آلاف دولار. وإذا قورن هذا الرقم الأخير الذي يعتبر متدنيا بما ينفقه المغرب يصبح من العبث الدخول في سياق المقارنات.
هدر مالي=هدر مدرسي
إن الهدر المالي ومحدودية الموارد وسوء تدبيرها كل ذلك يؤدي إلى نتيجة واحدة تعتبر واحدة من معضلات التعليم والمدرسة العمومية على الخصوص إنها الهدر المدرسي. فاستمرار الفقر في تكاليف الإنفاق على التلاميذ يراكم إمكانيات الفشل المدرسي الذي يتحول بدوره إلى هدر مدرسي يتطلب القضاء عليه مجددا نفقات جديدة، فتصبح العلاقة بين الهدر المالي والهدر المدرسي عبارة عن حلقة مفرغة تؤدي إحداهما إلى الأخرى باستمرار. إن الانقطاع عن الدراسة بالنسبة لحوالي 300 متعلم سنويا يغادرون المدرسة دون تأهيل أو شهادة يعتبر في حد ذاته استنزافا للمجهود التمويلي الذي يعاني أصلا من كل المعضلات التي سبقت الإشارة إليها.
وتزداد خطورة هذه الظاهرة واستنزافها عندما يتعلق الأمر بالانقطاع في المستوى الابتدائي الذي يتسبب لا شك في ما يعرف بالأمية الوظيفية وتتطلب معالجته جهودا أكبر وإمكانيات مالية أكثر تعمق من جراح المدرسة العمومية.
كل ما سبقت الإشارة إليه لا يزال واقعا قائما في سياق تستعد فيه الدولة والحكومة لإقرار الرؤية الاستراتيجية لإصلاح قطاع التعليم التي تنضاف إلى برامج ومشاريع إصلاحية سابقة اصطدمت بدورها بمعضلة الموارد المالية. ويبقى نجاح هذه الرؤية الإصلاحية أو غيرها متوقفا على قناعة أساسية مفادها أن الإنفاق على التعليم يجب أن يظل ثابتا من ثوابت السياسة العمومية وأن الزيادة في معدلاته ومستوياته شرط لا محيد عنه من أجل إنقاذ المدرسة العمومية.
الخصاص وضعف التكوين يعمقان جراح المدرسة
في سنة 2007 كشفت بعض التقارير أن 17 من معلمي الابتدائي لا يتوفرون على شهادة البكالوريا، كما أوضح استطلاع رأي أجراه المجلس الأعلى للتعليم أن ثلث المدرسين يقرون بتراجع صورتهم في المجتمع. هذان المعطيان يرتبطان بمعضلة أساسية من معضلات المنظومة التربوية، إنها معضلة الموارد البشرية التي تعاني من عدة إشكالات أهمها: الخصاص، ضعف التكوين، ظروف المهنة الصعبة.
ورغم أن هذه الأمثلة من المعطيات قد تكون في المستويات الطبيعية إلا أنها تعكس فقدان أجمل مهن العالم لبريقها ومكانتها في السلم الاجتماعي المغربي. ولم يكن هذا التراجع في صورة المهنة وممتهنيها وظروف ممارستها حدثا طارئا بل نتيجة تراكمات وتحولات اقتصادية وثقافية واجتماعية عاشها مغرب ما بعد التقويم الهيكلي.
خصاص مزمن
بعد أن قررت الحكومة في نهاية الموسم الدراسي المنصرم من خلال مرسوم جديد عدم ضمان توظيف خريجي مراكز تكوين الأساتذة تكون بذلك قد أدخلت المنظومة التربوية حقبة الخصاص الرسمي والمزمن. هذا الخصاص الذي تفرضه إكراهات قوانين المالية التي لم تعد توفر ما يكفي من المناصب المالية في قطاع التعليم تماشيا مع توجهات الحكومة التقشفية وتخفيف نفقات الأجور. وفي هذا السياق يقدر بعض الخبراء حجم الخصاص الذي يعاني منه قطاع التعليم بحوالي 30 إطار من المدرسين والإداريين بالنظر إلى أن حجم الاكتظاظ المتنامي داخل الفصول الدراسية يعكس تراجعا رسميا عن توظيف ما يكفي من الأطر لسد احتياجات المتعلمين. يكفي أن نعلم أن بعض الفصول الدراسية في المرحلة الثانوية التأهيلية بمدينة الدار البيضاء قد جاوزت سقف الخمسين تلميذا داخل الفصل الدراسي الواحد.
ويمكن أن تتضاعف معدلات الخصاص في حال توقف الحكومة بشكل سنوي عن توظيف المزيد من الأطر بالنظر إلى أن نسبة المقبلين على الإحالة على التقاعد العادي أو النسبي في ارتفاع مستمر في قطاع التعليم. ويعكس الإجراء الذي قامت به الحكومة في الموسم الدراسي الماضي والمتمثل في تمديد مدة خدمة بعض الأطر إلى نهاية الموسم الدراسي رغم بلوغهم سن التقاعد الرسمي حجم أزمة الموارد البشرية في هذا القطاع. يكفي أن التأمل في رقم مخيف يكشف أن حوالي 15 في المائة من موظفي القطاع سيحالون على التقاعد بحلول سنة 2020.
أزمة التكوين
رغم تطبيق هندسة جديدة للتكوين من خلال تجميع مراكز المعلمين والمراكز التربوية الجهوية على مستوى كل أكاديمية في مراكز جهوية لمهن التربية والتكوين لم ينعكس الإصلاح على مسألة تكوين الأطر البشرية العاملة بالتدريس. ولطالما اعتبر المدرس أو المعلم في مجتمع تتعدى نسبة الأمية فيه 60 في المائة رمزا للعلم والثقافة والتنوير. وارتبط الأستاذ في ذهنية المغاربة بالشخص الأكثر قدرة على فهم الواقع وإرشاد الناس وتعليمهم بل واعتاد المجتمع أن يسند إليه وظائف ومهمات تليق بمكانته العلمية كالتعليم الديني أو إمامة الصلاة أو طلب الاستشارة. هذه الصورة الرومانسية أضحت اليوم تواجه تحديا كبيرا بسبب تعميم التدريس وارتفاع الطلب وتفاقم الخصاص في المدرسين وتوسيع قاعدة التخصصات.
هذه الأسباب جعلت التوظيف في مجال التدريس يستقطب الآلاف من الأطر رغم عدم كفايتهم. ووسط حوالي ربع مليون مدرس يمارسون المهنة يلاحظ في كثير من الحالات تراجع في مستوى المهنيين. وإضافة إلى الأسباب السابقة يعتبر انعدام التكوين بسبب التوظيف المباشر أو غياب التكوين المستمر واحدا من الأسباب الرئيسية في ضعف التأهيل والمواكبة لدى قطاع واسع من المدرسين. ويبرز هذا الضعف على مستوى التكوين لدى كل فئات المدرسين ويكفي أن ندرك أن أكثر من 17 في المائة من المعلمين في المستوى الابتدائي غير حاصلين على شهادة البكالوريا.
ويظل إصلاح نظام التكوين بشكله الحالي قاصرا رغم كل الجهود التي بذلت من أجل تحسينه إذ يعرف عدم تجانس التكوينات الجامعية لأساتذة التعليم الابتدائي المتدربين مما يجعل تأهيلهم المهني صعبا، ويؤثر بالتالي على جودة ممارستهم. وتفتقد عملية التكوين لبرامج تلائم كافة مهن التربية كالأساتذة المؤهلين ومسيري التربية والمتخصصين في علم النفس التربوي والمرشدين التربويين. ورغم إنشاء المسالك الجامعية للتربية إلا أن خريجيها لا يتوفرون إلا على حق التقدم إلى المباريات التي ينظمها قطاع التربية الوطنية على غرار باقي المجازين، وهو ما يعني أن الانخراط الفعلي للجامعات في تكوين المدرسين والمربين بالمواصفات التي تستجيب لحاجات التربية الوطنية أمر لا يزال بعيد المنال.
ويبقى الشق التطبيقي في تكوين الأساتذة من بين الجوانب الأكثر نقصا وضعفا بالنظر إلى غياب معايير لاختيار المؤسسات التي تستقبل المتدربين والمرشدين التربويين إضافة إلى عدم تحفيز هؤلاء المرشدين في القيام بمهامهم التأطيرية للأساتذة المتدربين التي تبقى لهم كامل الحرية في تقويم الوضعيات البيداغوجية التي يختبرها متدربوهم.
هذه الإكراهات المتعلقة بالتكوين والأخرى المرتبطة بالخصاص تعزز من إشكالية أخرى لا تقل خطورة في محور الموارد البشرية، إنها تلك التي تهم صورة الأستاذ ومكانته الاجتماعية والاعتبارية.
صورة مهزوزة
في استطلاع للرأي أجراه المجلس الأعلى للتعليم تبين أن النظرة الذاتية السلبية نحو المهنة تسود في أوساط أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي حيث أن أكثر من 40 في المائة منهم اعترفوا بأن صورة التعليم قد تدهورت إلى حد ما. لكن هذا الاستطلاع لم يكشف عن أسباب هذه النظرة ولا عن مسببات التراجع في نظرة المجتمع إلى المدرس ومهنة التدريس.
يعود الخدش الأول الذي أساء لصورة المعلم إلى ظاهرة الساعات الإضافية والدروس الخصوصية التي انتعشت في سنوات التسعينيات. فقد تحولت هذه الظاهرة تدريجيا بعد تقنينها من طرف وزارة التربية الوطنية من فسحة للموازنة المادية لبعض مهنيي التدريس إلى بقرة حلوب لبعض المدرسين.
ورغم أن البعض رأى في الساعات الإضافية أو الدروس الخصوصية حلا لضعف الجودة واستدراك تعثرات المتعلمين إلا أن ما جعلها تسيء لصورة المدرس هو الطابع الإجباري والإلزامي الذي اتخذته لدى بعض المدرسين من خلال ابتزاز بعض التلاميذ وخصوصا في الإشهادية التي يكون فيها التلاميذ مطالبين باجتياز امتحان رسمي. غير أنه لا يمكن طرح هذه الظاهرة دون الإشارة إلى جذورها وأسبابها الاقتصادية المرتبطة أساسا بهشاشة الوضع الاجتماعي للمعلمين والمدرسين وتدني الأجور.
رغم أن الحكومة الحالية حققت نجاحا واحدا لا يتعدى تقنين الإضراب والحد منه بشكل ملحوظ من خلال إجراء الاقتطاع من الأجور بالمقارنة مع ما كان سائدا قبل، إلا أن هذا الحق يعتبر بالنسبة للمجتمع المغربي واحدا من الأسباب الرئيسية للصورة السلبية التي يحملها عن هذه المهنة. وتنضاف أيام الإضراب إلى ظاهرة التغيبات غير المبررة لتزيد من واقع تدني هذه الصورة.
وإذا كان اهتزاز هذه الصورة يرتبط أحيانا بعوامل موضوعية فإنه في كثير من الأحيان يخرج عن نطاق سيطرة المهنيين العاملين بهذا القطاع. فظروف المهنة التي تزداد صعوبة موسما دراسيا بعد موسم بسبب مظاهر الاكتظاظ وتضخم ساعات العمل وتضاعف الواجبات الموكولة إلى المدرسين الذين يعملون داخل الفصول وفي البيت دون أن يؤخذ ذلك بعين الاعتبار، كل هذه العوامل لا تساعد بتاتا في تحسين صورة المدرس الذي يحس أنه مستهدف بكافة السياسات القطاعية والوطنية. وينضاف إلى ذلك تردي الوضعية المادية لجل العاملين بهذا القطاع الذي يعتبر موظفوه أدنى موظفي الدولة أجورا، ناهيك عن غياب الحوافز والامتيازات التي تحظى بها قطاعات عمومية أخرى.
هكذا تسببت ضريبة تعميم التمدرس في ظاهرة الاكتظاظ
الهدر المدرسي أحد العناوين البارزة لفشل منظومة التعليم
0207
حينما راهن الميثاق الوطني للتربية والتكوين من ضمن مشاريعه على تعميم التمدرس ليصل في أفق 2015 إلى مائة في المائة، لم يضع له ما يكفي من أدوات النجاح، خصوصا وأن من بين أسباب فشل هذا الميثاق هو أنه جاء بدون موارد مالية كافية، هي التي انتبه لها بعده المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم. والحصيلة هي أن ضريبة هذا التعميم كانت هي الاكتظاظ الذي عرفته جل حجرات الدرس، على الرغم من أن مخطط الوزير أخشيشن وضع ضمن مشاريعه ما يتعلق بتصحيح هذه الوضعية دون أن ينجح فيها.
واليوم حينما نعيد التأمل في إكراهات قطاع التربية والتعليم، لا بد أن نتوقف عند أشكالية الاكتظاظ. فليس سرا أن نجد معدل التلاميذ في القسم الواحد، يفوق عادة الأربعين وقد يصل أحيانا إلى خمسين تلميذا، خصوصا في بعض المؤسسات التعليمية بالوسط القروي.
تتطلع المدرسة المغربية اليوم لإصلاح تربوي سواء ذلك الذي حمله تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، أو الذي سطرته وزارة السيد رشيد بلمختار. لكن لا يتم الانتباه لهذا الإكراه الذي يعني واقع المؤسسات التعلمية، وضرورة تأهيلها لكي تقوم بدورها على الوجه الأكمل. لذلك قد تذهب كل الإجراءات التي يمكن أن يحملها مشروع الإصلاح أدراج الرياح إذا لم تجد في استقبالها مؤسسات تعلمية مؤهلة.
وليس غريبا أن يعترف أكثر من مسؤول أن غياب المراحيض، مثلا عن مؤسسة تعليمية في الوسط القروي، يكون سببا مباشرا في الهدر المدرسي الذي يطال التلميذات على الخصوص. لذلك كان المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم والذي لا تزال الكثير من مشاريعه في حاجة لتفعيل وإعادة الروح، قد وضع ضمن هذه المشاريع واحدا يعنى بتأهيل المؤسسات التعليمية بعد أن كشفت عملية التشخيص عن واقع مترد.
قالت الأرقام وقتها إن ما يفوق 9 آلاف حجرة دراسية تعتبر غير صالحة لاحتضان التلاميذ واستقبالهم. وإن 60 في المائة من المدارس الموجودة في العالم القروي، غير مرتبطة بشبكة الإنارة. وإن أكثر من 70 في المائة منها لا يوجد بها ماء. في حين أن 80 في المائة من هذه المدارس والمجموعات المدرسية توجد بدون دورات مياه. وعليه فقد كانت الحاجة تفرض ضرورة إحداث 260 مؤسسة تعليمية كل موسم دراسي لا تتمكن الدولة من بناء غير 90 مؤسسة سنويا.
يعترف المتتبعون للشأن التربوي أن ظاهرة الهدر المدرسي التي تشكل واحدة من عناوين فشل المنظومة التعليمية ترتبط في شق منها بفضاءات المؤسسات التعليمية التي تفتقد لأبسط شروط الاستقبال كدورات المياه والإنارة والماء الصالح للشرب. وعليه، فالعلاقة وثيقة بين تحسين فضاءات المؤسسات التعليمية، وتحقيق الجودة. لذلك كان المخطط الاستعجالي قد وضع ضمن مشاريعه إحداث 2500 حجرة إضافية في التعليم الابتدائي، منها 1700 حجرة في العالم القروي. وإحداث 720 مؤسسة إعدادية جديدة بمعدل 6800 حجرة إضافية.
كان مشروع هذه البنايات طموحا، بحسب الكثير من المتتبعين الذين يعرفون حقيقة بنيات الاستقبال. غير أن تنفيذه تأخر كثيرا أولا لأن المخطط الاستعجالي توقف في منتصف طريقه لأسباب سياسية. وثانيا لأن جل الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين لم تنجح في المهمة بعد أن ظلت تنتظر مطولا تأشيرة وزراة المالية. كما أن الكثير من هذه الأكاديميات لم تكن تعقد مجالسها الإدارية في الوقت المناسب لكي تتأتى لها المصادقة على صفقات الإحداث هذه. والحصيلة هي أن جل الأكاديميات الجهوية لم تتمكن من صرف غير جزء يسير من ميزانياتها تراوحت بين 40 و45 في المائة.
حينما اختارت وزارة التربية الوطنية أن تضع ملف البنايات بيد الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين عملا بمبدأ الاستقلالية واللامركزية، لم تنتبه لشق أساسي هو المتعلق بغياب المؤهلات البشرية العارفة بتدبير ملف الصفقات. وعلى الرغم من الخطوة التي كان قد أقدم عليها وزير التربية الوطنية الاتحادي حبيب المالكي، والذي فتح أمام أطر الأكاديميات الجهوية فرصة التكوين في هذا المجال، إلا أن التجربة توقفت في بدايتها. وظلت هذه المؤسسات فاقدة للموارد البشرية القادرة على حسن تدبير وصرف الاعتمادات المالية التي حولت إليها من قبل الوزارة الوصية.
لم يفوت الكثير من المتتبعين الملاحظة كون تحويل ملف البنايات المدرسية من يد الإدارة المركزية لوزارة التربية الوطنية إلى الأكاديميات الجهوية، كاد يبعدها عن الدور الأساسي الذي يفترض أن تضطلع به وهو التربية والتعليم، خصوصا لافتقادها للتجربة والأهلية. لذلك كانت بعض الأصوات قد نادت بضرورة وضع ملف البنايات المدرسية بيد وكالة، أو مؤسسة خاصة لها ما يكفي من الإمكانيات والكفاءة لتكون قادرة على الوفاء بالالتزامات، بعد فشل تجربة الأكاديميات التي لا تزال الكثير من مشاريعها متوقفة إلى اليوم بعد أن دخل بعضها إلى ردهات المحاكم حيث يتواجه مسؤولوها مع المقاولين الذين لم يحترموا ما حمله دفتر التحملات على مستوى جودة الإنجاز، أو على مستوى مدته. والحصيلة هي أن عددا من الخرائط المدرسية هنا وهناك لم تلتزم بما سطرته، واضطرت بعض المؤسسات التعليمية إما لرفض استقبال التلاميذ، أو استقبالهم في ظروف سيئة قد يصل فيها عددهم في الحجرة الواحدة إلى خمسين تلميذا تزيد أو تنقص.
وارتباطا بهذه الملف الحساس المتعلق بتأهيل المؤسسات التعلمية وعلاقة ذلك بتحقيق الإلزامية، والوصول إلى الجودة المفترضة، يطرح إشكال آخر لا يقل أهمية، وهو المتعلق بالصيانة والمحافظة على المؤسسات التعليمية.
لنعترف أولا أن جل المؤسسات التعليمية تفتقر اليوم لأعوان الخدمة بعد أن أوقفت وزارة التربية الوطنية تشغيل هذه الفئة. لذلك يضطر المدرس رفقة تلامذته للقيام بمهام الصيانة أو النظافة مكرها. لذلك كان المخطط الاستعجالي قد انتبه لهذا الأمر حينما دعا إلى ضرورة إشراك الجماعات المحلية في عملية الصيانة وحماية فضاء المؤسسات التعلمية من التلف والتخريب خصوصا أثناء العطل المدرسية. غير أن الأمر ظل مجرد مشروع لم تقتنع به الجماعات المحلية، التي ظلت تعتبر نفسها غير معنية بقضايا التربية والتعليم سواء تعلق الأمر بشق حماية وصيانة المؤسسات التعليمية، أو تعلق بانخراطها في مشاريع التعليم الأولي، التي تعتبر من مهام الجماعات الترابية كما يحدث في جل الدول التي نجحت في هذه التجربة.
يقول أهل التربية والتعليم إن الزمن المدرسي زمن بطيء، لذلك تصبح عملية التقييم لنجاح هذا المشروع أو فشله، تتجاوز الزمن السياسي والحكومي لأن النتائح الفعلية لا تظهر إلا بعد عقد أو يفوق من الزمن. وعليه فقد كان المخطط الاستعجالي في حاجة للوقت قبل إخضائه للتقييم لاسثتمار ما تحقق فيه إيجابا، وتعديل ما لم ينجز، بدلا من إنهاء العمل به دفعة واحدة وهو الذي كلف مالية الدولة أكثر من أربعين مليار درهم، خصوصا وأنه حمل معه أكثر من عشرين مشروعا كان ضمنها مشروع أساسي هو تأهيل المؤسسات التعليمية، الذي لم ينجز غير نسبة قليلة منه.
أحمد شراك *:  الدولة يجب أن تحاسب المتورطين في أخطاء البرنامج الاستعجالي
قال إن نتائج تطبيق النظريات التربوية كانت كارثية
08
– منذ الاستقلال، عرف المغرب –ومازال- تطبيق سياسات تعليمية تستدعي إصلاحات وإعادة نظر مستمرة، لم يعز هذا التذبذب في إنتاج سياسات عمومية فعالة في مجال التعليم؟
< صحيح بأن المغرب منذ الاستقلال الوطني، يجرب سياسات تعليمية..وإن كان الأمر بدا طبيعيا بعد الاستقلال مباشرة، لكون المغرب لم يكن يتوفر على فعاليات وأطر تعليمية وطنية قادرة على ممارسة التفكير واقتراح إنجازات أو تصورات أو نماذج.. إلا أن الأمر غير مستساغ، نظرا لاستمرارية هذا النهج التجريبي للسياسات المختلفة والمتضاربة أحيانا، لأجل بلوغ تعليم مغربي فعال، قادر على بث رسالة التعلم وعلى الاستجابة لمختلف حاجات البلاد من الموارد البشرية، وقادر كذلك على المساهمة في بناء التنمية الاجتماعية والاقتصادية، لأن التعليم ركن أساسي في هذا البناء.
– هل تعريب المناهج التعليمية بداية الثمانينيات ساهم في تراجع جودته؟
< لاشك أن التعريب كان من الشعارات الرئيسية لمرحلة ما بعد الاستقلال، ولقد كان الهاجس-آنذاك- هو الهوية اللغوية الوطنية والإعلاء من شأنها بل واعتبارها ندية للغات الأجنبية أو أكثر، حيث كان يتم الاعتقاد –سياسيا- بأن تعريب المواد التعليمية من شأنه أن يعمق هذه الهوية، بل ويضفي على التعليم طابع التقدم والمنافسة، انطلاقا من مسوغات إيديولوجية تعتبر أن اللغة العربية هي «أم اللغات» وأحسنها، ومن هنا كان حقا لهذه السياسة اللغوية التعريبية أثر على قدرة تعليمنا على منافسة النماذج التعليمية الكونية، بل وحتى أمام بعض النماذج التعليمية العربية مثل التجربة التونسية..
– جربنا في العقدين الأخيرين عدة بيداغوجيات تعليمية (بالأهداف) (كفايات) و(الإدماج) ويتم اليوم التسويق للبيداغوجيا الفارقية..التي لم تنتج كلها إلا مزيدا من الهدر المدرسي وتدني الجودة، أين مكمن الخلل الحقيقي؟
< بالفعل، توالت على الصرح البيداغوجي المغربي مجموعة من النظريات التربوية التي تحمس لها الفاعلون التربويون بحسب الفترات التاريخية، فنظرية الأهداف تطلبت مجهودات من أجل اعتمادها في الدرس التربوي، وكذلك نظرية الكفايات، ونظرية الإدماج التي تم التخلي عنها من طرف الوزير القطاعي السابق محمد الوفا داخل النسخة الأولى لحكومة عبد الإله بن كيران، وصولا إلى النظرية الفارقية المعتمدة حاليا. وكما يعلم الخبراء والفاعلون فإن النظرية التربوية بمثابة الوعاء الإيديولوجي للغايات التي يرتضيها الفاعل السياسي، بينما الفاعل التربوي في صف القرار هو بمثابة المهندس المعماري الذي يلعب دور الوساطة بين الزبون والمقاول، ويبقى هذا الفاعل التربوي-الأستاذ- منفذا ومراقبا داخل المنظومة لأجل تطبيق النظرية التربوية وتقديمها للزبناء وهم مجموع الجماهير العريضة من أبناء الشعب المغربي، ويذكر أيضا بأن المغرب لم يستفد من الخبرات الوطنية الموجودة وهي كفاءات حقيقية، بعضها أنتج نظريات تربوية واجتهادات تربوية، لكن بالمقابل، فضل المغرب أن يظل رهينا لسوق التربية الأجنبي عبر لوبي من المروجين لهكذا نظريات، وما يتطلبه هذا الترويج من إمكانات مالية هائلة..
وكانت نتائج تطبيق تلك النظريات كارثية على صعيد التمدرس، الذي مازال يعيد إنتاج الأمية ويوسع من دائرتها، بعد نصف قرن على الاستقلال الوطني…
– القطاع الخاص في التعليم مافتئ يعرف انتعاشا مطردا، مستعملا بيداغوجيات مختلفة و»مشاريع تربوية» خاصة..ألا يمكننا القول بأن التعليم المغربي يسير بسرعتين متفاوتين ومتوازيتين في الآن نفسه؟
< يبدو ذلك جليا بين كل من المدرسة العمومية، والمدرسة الخصوصية، هذه الأخيرة التي باتت تستقطب-بشكل لافت- أبناء الطبقات العليا وجزء عريض من الطبقة الوسطى، أما الطبقات الشعبية فمازالت ترتاد التعليم العمومي بكثافة…
أذكر هنا، بأننا لسنا ضد التعليم الخصوصي، الذي قد يساهم في الرفع من الجودة التعليمية لكن نحن ضد تعليم خصوصي يستفيد من الدولة، دون أن يساعدها ودون أن يتعاون معها، فمثلا على مستوى توظيف الأطر فهو يستفيد من أجود الفاعلين التربويين، وهم عنوان استجلابه واستقطابه للزبناء وهذا هو بيت القصيد، إذ لا تتوفر لديه أية برامج خاصة ومغايرة ذات جودة عالية، اللهم تلك المدارس التي تحاكي التعليم الفرنسي في مناهجها وبيداغوجيتها، كما أن هناك اعتقاد بأن الولوج للتعليم الخصوصي من شأنه أن يضمن للزبون مقعدا مريحا في المستقبل، داخل الجامعات والمعاهد المحدودة الاستقطاب ذات المردودية الاجتماعية في التشغيل والتوظيف، وهو اعتقاد يبدو صحيحا في المظهر، لكن يبدو أن مسار السياسة التعليمة يسير نحو التضييق وطريق مسدود، بغض النظر عن أنماط التعليم أهي عمومية أو خصوصية..؟ ومن هنا قد يقتضي الأمر إعادة النظر في هذه السياسة عبر «ثورة» من داخلها، من أجل مسار تنمية حقيقي حتى نصل إلى مصاف الدول الصاعدة، على اعتبار أن التعليم من أكبر الرأسمالات اللامادية والمؤثر الفاعل في مسار التنمية والتقدم.
– يعد العنصر البشري عصب التعليم الناجح، ما هي مختلف المشاكل البنيوية التي تعانيها الهيئة التعليمية؟
< يعد العنصر البشري بيت القصيد، وأي إصلاح كيفما كان يقفز على هذا العنصر أو يموه اتجاهه بقصور من الإصلاح فإنه لن يفلح، ولهذا فإن الاهتمام بالوضع الاعتباري لرجل التعليم في بلادنا، يعتبر مطلبا ملحا بالنسبة لسياسة الدول ككل، وعليها أن توفر له هذا الوضع الاعتباري، بعيدا عن النظر إليه بعين الإهمال والسخرية أحيانا من وضعيته المادية المتأزمة، والتضييق عليه في رزق إضافي عبر قرارات تبدو صالحة، لكنها في الواقع مفجعة، فقبل أن نقنن عمله الإضافي، على وزارة التربية الوطنية أن تطلب من وزارة المالية التعرف على ما يتبقى من حوالاته المالية حتى يتسنى لها النظر في أحواله، فأوضاع رجل التعليم تظل مدخلا للإصلاح وتطوير أدائه وتواصله التربوي.
– عرفت المدرسة العمومية تنزيلا لمخطط استعجالي اتضح فيما بعد أن جل صفقاته كانت مشوبة..، هل في نظركم إصلاح التعليم العمومي كقطاع استراتيجي وحيوي يمكن أن يمر عبر «مخططات استعجالية» ؟
< ليس بالضرورة، فالمخطط الاستعجالي السابق 2009-2012، رصدت له مبالغ مهمة لأجل إصلاح التعليم، وبغض النظر عن الفساد الذي يمكن أن يكون قد لحقه، فالدولة تبقى قادرة عبر أجهزتها على محاسبة المتورطين –إن هي أرادت-. لكن ما أعرفه شخصيا، هو أن الوزارة كانت توزع المال بدون حساب، وبدون سن سياسة للبحث العلمي في مجال التربية والتعليم، الذي يعد مغيبا في أجندة وزارة التربية والتعليم أو وزارة التعليم العالي، ولهذا يجب الالتفات للبحث العلمي وسن سياسة بعيدة عن كل تهميش وعن سياسة «استيراد النماذج» والتواكل على تجارب الآخرين..
– ما هي الكلفة الاقتصادية والتنموية لتدني قطاع التعليم العمومي بالمغرب؟
< لا شك بأن الكلفة تبقى عالية..، بالنظر إلى أن ميزانية التعليم والتربية الوطنية هي ثاني ميزانية بعد الميزانية المرصودة للوحدة الترابية لهذا فأي انتقاص ولامبالاة أو إهمال مقصود أو غير مقصود فهو في الحقيقة ضرب للثروة المالية للمغرب، كونه يخصص مالا وفيرا للتربية والتعليم/ مما حدا بالبعض تسميتها بــ»الميزانية الآكلة لمال الدولة» لأنها تنال أزيد من 40 في المائة من الموازنة العامة، ومن تم يبقى الإصلاح ضروري للمنظومة التعليمية حتى نتقدم في المسار التنموي، ومن جهة ثانية حتى يتسنى لنا توفير الكثير من المال المهدور للشعب المغربي، كما هو مهدور تعليم أبنائه.
– صرح رئيس الحكومة أخيرا، بأن «حل التعليم يكمن في خوصصته»، هل فعلا، يمكن أن تكون الخوصصة بمثابة «العصا السحرية» لإنقاذ منظومة التعليم العمومي؟
< هذه تبقى وجهة نظر سياسي، تبقى سريعة قد تحتاج إلى دراسات علمية تثبت فعلا هل نحن في حاجة إلى خوصصة، قد تكون بمثابة مفتاح سحري يمكن لها توفير فائض الميزانية للدولة، وأن الدولة يمكن لها أن تتخلص من هذا العبء لأن كل شيء سيكون بيد الخواص. مثل هذا الرأي يجب أن يستند إلى دراسات، وينبغي أن يفتح فيه نقاش واسع من لدن مختلف الحساسيات السياسية والاجتماعية والنقابية والمجتمع المدني، وإن كنت –شخصيا- أعتبره حلا من الناحية النظرية، يبدو بمثابة «الخلاص» لكن من الناحية العملية ينبغي تقوية شروط التعليم في المدرسة العمومية ورد الاعتبار إليها انطلاقا من رجل التعليم، والاعتماد على كفاءات وطنية على المستوى التربوي والابتعاد عن هاجس الأمن السياسي الذي يحول دون وصول التعليم إلى أهدافه التنموية، فالتعليم ليس قضية السياسي لوحده بل يهم الشعب المغربي قاطبة.
القطاع الخاص.. عندما يتحول الاستثمار في الجهل إلى بقرة حلوب
أقساط خيالية وتجارة في النقط على هامش فشل المدرسة العمومية
00
ما بين سنتي 2008 و2013 أغلقت 191 مؤسسة تعليمية عمومية بالمغرب، كما انخفض عدد التلاميذ المسجلين بالتعليم العمومي ما بين 2000 و2014 بشكل كبير، ووصلت نسبة التعليم الخصوصي بمحور القنيطرة الدار البيضاء إلى ما بين 35 و50 في المائة، وانتقلت نسبة التلاميذ المسجلين بالتعليم الخاص من 4 في المائة من المتمدرسين سنة 1999 إلى 15 في المائة في سنة 2015. كل هذه الأرقام المتنامية تكشف عن صعود صاروخي لأسهم قطاع التعليم الخصوصي في وقت تتراجع فيه المدرسة العمومية وتقبل المزيد من الأسر على البدائل التعليمية الخاصة.
هذا النمو الكبير في قطاع التعليم الخصوصي تغذيه توجهات الحكومة الحالية التي لم تعد تخفي أن التعليم أصبح عبئا كبيرا على كاهلها وتصرح مرة بعد أخرى بضرورة تحمل القطاع الخاص جزءا من المسؤولية. غير أن هذه المسؤولية مؤدى عنها وبأسعار باهظة.
أقساط خيالية
في أبريل الماضي طالبت لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالأمم المتحدة الحكومة المغربية بالوفاء بالتزاماتها فيما يتعلق بالحد من اللامساواة في ولوج الأطفال إلى المدرسة عندما اعتبرت أن هناك تطورا غير متحكم فيه فيما يخصّ التعليم الخصوصي، ممّا أدى إلى توسيع مظاهر الاختلال في ضمان حق أطفال المغاربة في التمدرس، وذلك بناءً على تقرير الجمعيات المغربية التي راسلت الأمم المتحدة من أجل التدخل للحدّ من نزيف المدرسة العمومية بالمغرب.
وقد جاء في التقرير أن رسوم التمدرس بالمؤسسات التعليمية الخاصة غير مقننة وتتراوح نسبتها بالدار البيضاء بين 400 درهم و5000 درهم في السلك الابتدائي فقط، رغم أن الدخل الشهري المتوسط في المغرب يتوقف عند حدود 3500 درهم، مبرزًا أن أسر الدار البيضاء تنفق في المتوسط 31 ألف درهم سنوياً لتمدرس أبنائها في القطاع الخاص.
غياب الإطار المقنن لأسعار التعليم الخاص يفتح المجال واسعا أمام نوع من الفوضى، إذ غالبا ما تجد الأسر المتوسطة ومحدودة الدخل صعوبات في توفير هذه الأقساط التي تزداد قيمتها باستمرار موسما بعد موسم. ورغم أن الحكومة الحالية قد اتخذت في بداية ولايتها إجراءات متعددة لتنظيم القطاع إلا أنها همت بالأساس علاقة القطاع الخاص بالتعليم العمومي وبموارده البشرية عندما أهدت للمؤسسات الخصوصية هدية مجانية تتمثل في تكوين آلاف الشباب وتأهيلهم للعمل في المجال التربوي دون أن تحصل بالمقابل من القطاع الخاص على أي تنازلات خصوصا فيما يهم وضع دفتر للتحملات يوضح الخدمات التي تقدمها المؤسسات التعليمية، ويضع لها سعرا مرجعيا. إذ غالبا ما تلجأ مؤسسات التعليم الخصوصي إلى بيع كل ما يمكنها أن تربح من ورائه، فبالإضافة إلى أقساط التدريس، تقدم أسعارا خيالية للنقل والتغذية والكتب المدرسية المفروضة والخدمات الترفيهية وغيرها. ومن المستغرب أن جل هذه المصادر الاستثمارية بالنسبة للتعليم الخاص لا تجعله دائما في قمة الأداء التربوي المطلوب بالنظر إلى أن كثيرا من المؤسسات العمومية يحصد تلاميذها نتائج أفضل بكثير من مؤسسات خصوصية وخاصة في المرحلة الثانوية التأهيلية كما تدل على ذلك نتائج البكالوريا.
تجارة النقط
ليس النقل والتدريس والتغذية وحدها الخدمات القابلة للبيع في القطاع الخاص، فهو متهم في أنظار كثير من الفاعلين التربويين والمهتمين بتجارة من نوع آخر تستقطب آلاف المتمدرسين تتمثل في التلاعب بنقاط المراقبة المستمرة التي تعتبر عامل جذب بالنسبة للكثير من المؤسسات الخاصة في الثانوي التأهيلي، حيث يصبح لهذه النقطة وقعها في تحديد مصير التلاميذ ومدى إمكانية حصولهم على شهادة البكالوريا. ولا يزال الكل يتذكر تصريح وزير التعليم العالي لحسن الداودي أمام نواب الأمة في سنة 2012 بأن قطاع العليم الخاص يتلاعب في نقاط المراقبة المستمرة ويضخمها، وأن هناك توجها للوزارة نحو إلغاء نقط المراقبة المستمرة والاكتفاء بنقاط الامتحان الوطني في البكالوريا، وهو التصريح الذي أثار جدلا واسعا في الأوساط التربوية وبين مهنيي القطاع الخاص وبين الأسر والتلاميذ.
وتعتبر المراقبة المستمرة بالمستوى الثانوي التأهيلي الأكثر إثارة للجدل بالنظر إلى أنها تشكل ربع المعدل المطلوب لنيل شهادة البكالوريا. وبالنظر إلى القيمة الاجتماعية التي لا تزال تحظى بها هذه الشهادة في أوساط الأسر باعتبارها مفتاحا للمستقبل الدراسي والمهني للأبناء فإن مراحل المراقبة المستمرة في هذا المستوى تشكل إكراها نفسيا للأسرة والتلميذ.
ويخضع التلاميذ للمراقبة المستمرة في مرحلة الجذوع المشتركة، بيد أنهم في مرحلة الباكالوريا يخضعون لامتحان جهوي بنسبة 25% في السنة الأولى والمراقبة المستمرة بنسبة 25% في السنة الختامية مع اجتياز الامتحان الوطني الذي يستوجب نسبة 50%، ويتوج هذا الامتحان بالحصول على شهادة البكالوريا للولوج إلى المعاهد العليا والجامعات.
غير أن تنامي ظواهر تضخيم نقاط المراقبة المستمرة بالنسبة لتلاميذ السنة الثانية بكالوريا وخصوصا في القطاع الخاص هو ما أثار الجدل ودفع البعض إلى اقتراح إلغائها. واستند هذا الاقتراح إلى تحليل نتائج امتحانات البكالوريا لسنة 2011-2012 في علاقتها بمكون المراقبة المستمرة في المؤسسات الخاصة، والتي بلغت بها نسبة النجاح 62.8 في المائة، وأفرزت عن وجود تباين بين النقط التي يحصل عليها التلاميذ في المراقبة المستمرة، والتي تميزت بارتفاعها، مقارنة مع النقط المحصل عليها في الامتحان الوطني الموحد، والتي تميزت بضعفها.
كشف تحليل نتائج امتحانات البكالوريا أن الفرق في أداء تلاميذ البكالوريا بالتعليم العمومي الذين يشكلون نسبة 93 في المائة، أقل حدة مقارنة مع تلاميذ التعليم الخصوصي الذين يشكلون 7 في المائة فقط من مجموع المترشحين على الصعيد الوطني.
وأظهرت نتائج تحليل نتائج امتحانات البكالوريا بالنسبة للتعليم الخصوصي، أن 38 مؤسسة (12 في المائة) توجد ضمن الفئة التي يفوق الفرق بها 10 نقط في أداء التلاميذ، و162 مؤسسة (52 في المائة) ضمن الفئة التي يتراوح الفرق بها في أداء تلاميذ البكالوريا بين 5 و10 نقط، و114 مؤسسة (36 في المائة) ضمن الفئة التي يقل الفرق فيها عن 5 نقط في أداء التلاميذ.
المصدرأحمد امشكح عن جريدة المساء العدد 2787

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.